في أوائل تسعينات القرن الماضي، وفي محاولة استيطانية ثانية، حدث أن الثنائي "شاي- نير" وهما من المستوطنين المقيمين في إحدى المستوطنات القابعة على أراضي مدينة خانيونس، قد قاما بالاعتداء على قطعة أرضٍ تابعة لأحد المواطنين الفلسطينيين، بحجة أنها مُسجلة باسم المندوب السامي البريطاني، بما يعني – لديهما- أنها أملاك حكومية، وتخضع لقوانين دائرة (أرض إسرائيل)، حيث بدءا بتسويتها بجرّافة صغيرة، كانا يقودانها بنفسيهما، تمهيداً لبسط سيطرتهما عليها، وكنّا من أجل الدفاع عنها، ولإعادتها إلى حجورنا، قد وقفنا كفلسطينيين وأصحاب مصيرٍ واحد، صفاً متراصاً في مواجهتهما، ولصدّهما عن مواصلة الاعتداء، وما هي إلاّ هنيهات قليلة، حتى هرعت باتجاهنا قوّة عسكرية إسرائيلية، تابعة لفرقة (غولاني)، وهي معروفة بشدّتها وشراستها باتجاه الفلسطينيين عموماً، سيما وأنها انتشرت في المنطقة خصيصاً، لإطفاء جذوة الانتفاضة، التي كانت لا تزال دائرة رحاها في تلك الفترة، ولمّا لم نجد حلاً إلاّ المغادرة، لم يكن أمامنا حينئذ، غير اللجوء إلى رفع دعوى قضائية لدى المحكمة المركزية الإسرائيلية، لأجل إنصافنا في حقوقنا المتوارثة أبّاً عن جد، وولداً عن والده، وكانت تلك الخطوة، قد جاءت بفضل نصيحة حكيمة، منحها لنا، الوطني "صبحي القدرة" إذ كان مُفوهاً وجريئاً، وباعتباره من الواقعين في مصيبة مُشابهة أيضاُ، وكانت المحامية الإسرائيلية – اليسارية- "فيليتسيا لانغر" في عز شبابها وذات صيت ملأ الدنيا آنذاك، هي من قامت من خلال اتصاله بها، بقبول توكيلنا لها، للدفاع عن ممتلكاتنا، وللمطالبة بتثبيت حقوقنا أمام المحكمة.
وماهي إلاّ أياماً معدودات، حتى حصلنا من خلالها، على أمر قضائي (احترازي) ضد المعتديين، الأمر الذي جعلنا نقفز فرحاً، ونُفاخر بالنصر على نحوٍ أكثر، وكأننا دخلنا التاريخ من أوسع أبوابه، حينما شاهدناهما يُغادران المكان، وأجمعنا على تسوير تلك الأرض وزراعتها مجدداً، لكن الأمر لم يدُم لنا كما نُريد، فقد فاجأنا الجيش الإسرائيلي بتسليمنا إخطارات عسكرية، تفيد بأن علينا التواجد لدى الحاكم العسكري العام، تمهيداً للمثول أمام محكمة عسكرية، بتهمة التعدّي على أملاك حكومية، والتي أسفرت عن غرامات ماليّة مُوجعة، بالإضافة إلى تعيين مدّة من الحبس مع وقف التنفيذ، وربما من أجل إنهاء القضيّة تماماً، والتي امتدت لفترة من الزمن، قامت أقرب المستوطنات إلى تلك الأرض، بضمّها واستغلالها مصبّاً لمجاريها ومكبّاً لفضلاتها.
لم تكن الحكومة الإسرائيلية تقصد التدخل، وإن كان قلبها ملبداً بالحقد والكراهية بشأن شطب النائبة "حنين زعبي" من قائمة الترشح لانتخابات الكنيست المقررة في مارس/آذار المقبل، بحجة أنها (إرهابية) أو عربية متطرّفة ومُعادية للدولة على الأقل، ومع ذلك أرادت المحكمة العليا الإسرائيلية أن تبرهن أمام الكل، على أنّها عادلة ومنفصلة تماماً عن الواقع السياسي الإسرائيلي، حينما ألقت بقرار الحكومة وبأحلام اليمين واليسار الإسرائيليين، من وراء ظهرها، وأقدمت على إلغاء قرار الحظر، والسماح بتمكين "زعبي" من تقديم أوراقها والترشح لخوض الانتخابات.
وكنا قد شاهدنا "زعبي" وهي تذوب سروراً وتضحك بملءِ فيها، لهذا الفوز العظيم، ولها الحق كفائزة في أن تفعل، لكن هذا الفوز، لا يمكنه أن يُنسينا قصّتنا الفائتة، بسبب أن الخسارة أو قِلّة الربح ستقعان لا محالة، وسواء كانتا فوراً أو ستأتيان لاحقاً، وإن على أشكالٍ أخرى، وبغض النظر عن أن لحكومات إسرائيل القدرة على الالتفاف على أية قرارات، أو اتباع إجراءات تبعاً لحاجتها، في سبيل إنجاح برامجها، تكتيكية كانت أم استراتيجية، فإن هناك إنجازات مهمّة للجانب الإسرائيلي أيضاً، ولِنبدأ، بأن هذا الفوز لم يكن مقتصراً على "زعبي" وحدها، فقد كان هناك فوزاً مقابلاً باتجاه اليمين الإسرائيلي، عندما شمل قرار المحكمة، إلغاء قرار شطب اليهودي "باروخ مارزيل" وهو أشد تطرفاً من المتطرفين اليهود أنفسهم، فإن كانت "زعبي" تناضل من أجل الحفاظ على حقوق الفلسطينيين، فإن "مارزيل" يدعو إلى قتلهم، أو تهجيرهم إلى ما بعد حدود الدولة، كما أن قرار المحكمة في حد ذاته، كان قد شكل نجاحاً لإسرائيل، بشأن إثبات أنها محكومة أمام المجتمع الدولي والمُعادي لها بخاصة، بقيود ديمقراطية صارمة، وبالتالي يمكن ائتمانها والاكتفاء بها، في شأن الفصل بقضايا أخرى والخاصة بالفلسطينيين أساساً.
كما أن في النهاية، فإن السماح بترشح "زعبي" وفوزها بمقعد في الكنيست الإسرائيلي مجدداً، لا يعني – لدى الإسرائيليين على الأقل- بأنه سيكون بمقدورها تشكيل إي إعاقة أو تهديدٍ يمكن ذكرهما، باتجاه أيّة نتيجة تسعي إلى تحقيقها الحكومة الإسرائيلية، وعلى الحالين: بشأن ثنيها عن ممارسات احتلالية سياسية وأمنية، أو بشأن إحباط مساعٍ لمشروعات قوانين برلمانيّة، والتي من شأنها المس بالديمقراطية وبالتواجد العربي داخل الدولة والفلسطينيين بشكلٍ عام.
ونختم بحكاية أيضاً مع الاحترام، وهي: أن عصفوراً صغيراً، أمسى على أحد فروع شجرة جميزٍ ضخمة، لا تعبأ بشمسٍ حارقة ولا تكترث لِبردةٍ قارسة، وعندما شقشق الصباح وهمّ بالمغادرة، أراد أن يشكرها على تحمّلها له وصبرها عليه، فقال لها: أخلف الله عليكِ بخيرٍ أيتها الشجرة. فانتبهت إليه باستغرابٍ وتساؤلٍ وقالت له: واللهِ لم أشعر بِك على أي فرعٍ كُنت!
واقرأ أيضا:
نتنياهو بين التكتيك الهادئ واﻻستراتيجية المزعجة/ الرباعية، علامة (أمريكية) مُسجّلة!/ قيمة اليهود واليهودية !