الاصطفاف من صفّ القوم وصفهم وتصافوا واصطفوا، وصفّ القوم فاصطفوا أي أقامهم صفا. وجمعها صفوف، ونقول ساووا صفوفكم في الصلاة، أو تساووا واتصلوا. والصف هو السطر المستوي من كل شيء، كصف الشجر والجند، ومنه الصف لطلبة في طبقة واحدة، فنقول هؤلاء في الصف الأول أو الثاني والثالث وهكذا. والوقوف في صف واحد سلوك إسلامي يمارسه المسلم لمرات عديدة في الأسبوع أو في اليوم لتأدية الصلاة في بيوت الله. وهو يدل على المساواة والاحترام والصبر والنظام والتقدير والدَور، ويعلمنا أن كل ما يمكن إنجازه في الحياة، لا بد أن يكون وفق نظام لأن أساس الخلق وسنة الوجود هو النظام الدقيق المحكم، الذي تجري فيه المقادير بحسبان.
الاصطفاف من العلامات الفارقة ما بين العالم المتقدم والمتأخر، ففي العالم المتقدم تجد الاصطفاف تربية وسلوك اجتماعي مرتب، وفقا للحالة التي تستدعيه وبهدوء وانسيابية عالية، ويُعد ضرب الصف من السلوكيات الشاذة والغير مقبولة، لأنها ترمز لعدم الاحترام والتقدير والالتزام بالقوانين والتقاليد العامة، وقد تؤدي إلى أن يقع صاحب السلوك تحت طائلة القانون، لأن في سلوكه تطاول على حقوق الآخرين. ولا يمكنك إلا أن تكون مهانا في عالم متقدم عندما تتجاوز على الواقفين في صف ما. وفي العالم المتقدم يُعرض الطفل على الطبيب، لأنه لا يمكنه الوقوف في الصف أو لا يحتمل ذلك، لأن في تصرفه إشارة لأعراض مرضية سلوكية تستدعي العلاج.
أما في العالم المتأخر فلا يمكنك أن تضع الناس في صف من غير مشاكل، وتدافع وتجاوزات وصراخ ومشاجرات وإرهاق وتنغيص وسب وشتم، وما إلى غير ذلك من السلوكيات المقيتة، وربما المميتة، لأن التدافع قد يتسبب في الموت.
ترى لماذا نتدافع ونأبى أن نصطف؟
هذه الظاهرة جديرة بالبحث والدراسة وإيجاد الحلول اللازمة لها لكي نرتقي إلى مصاف التقدم، وتبدو وكأنها مشكلة تربوية متصلة بحالات الاضطراب المتحققة في العالم المتأخر، وعدم إثبات أن القانون والنظام يضمن حقوق الناس، ولهذا يكون كل منهم قوة وقانون.
ويبدو أن القبول بالاصطفاف كسلوك اجتماعي وتفاعل إنساني يومي غير محبب في العالم المتأخر ومستهجن، ويحسب نوعا من الإهانة وفقدان القيمة والجاه، وكأننا لا يجوز لنا أن نتساوى بل نتميز ونتعالى على بعضنا البعض. وأسباب هذا السلوك متعددة ومتداخلة ويمكن الإشارة إلى بعض منها وهي:
أولا: عدم تعلمنا النظام: النظام سلوك حضاري نتعلمه، وكلما تطورت المجتمعات كلما شرعت القوانين والقواعد اللازمة لتنظيم حياته، لكي تبني مجتمعا سليما وقويا وخاليا من الاضطرابات، التي تعوق مسيرته إلى الأمام. ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطور ويتقدم من غير مراعاة دقيقة لأنظمة وقوانين معمول به، ومن غير أن يكون النظام الوسيلة المثلى للتعبير عن نشاطاته اليومية. فلكل سلوك أصول وقواعد يتم الالتزام بها لكي تمضي الحياة بانسيابية عالية ونجاح أكيد.
ثانيا: عدم احترامنا لبعضنا: هل نحن نحترم بعضنا البعض، ونقدر آراء بعضنا ونفخر ببعضنا؟
الجواب قطعا لا!!
ودليلنا ما نقرأه كل يوم في الصحف، وكيف أن الكثيرين يكتبون بأساليب غير مهذبة وغاضبة، وتنحو باتجاه عدم الاحترام والتقدير، بل فيها الكثير من السب والشتم والعدوان المقيت على بعضنا البعض.
لماذا لا نحترم بعضنا مثلما يحصل في العالم المتقدم؟
تساؤل على كل واحد منا أن يفتش عن جواب له!!
إن ضرب الصف بأي شكل من الأشكال هو تعبير عملي عن عدم احترامنا لبعضنا!!
ثالثا: عدم الصبر: سرعة نفاذ صبرنا ظاهرة نشترك فيها جميع، ولا يمكننا أن ننتظر لأننا لا نشغل عقولنا بفكرة وتفكير مفيد، وذلك لقلة المفردات اللغوية التي عندن، وعدم تعلمنا القراءة وممارستها في مجتمعنا. ففي العالم المتقدم تجد الفرد يحسب الانتظار فرصة للقراءة، فينكب على كتابه الذي يحمله معه ليقتل به دقائق وساعات الانتظار.
أما نحن فوسيلتنا لقتل الانتظار هو الشجار والعراك والتدافع، وما وقفت يوما في صف إلا وأمضيت الوقت أرقب الشجار والعراك والمفاجآت بسبب ضرب الصف، وما قرأت وأنا في طابور أو وجدت أحدا يقر، لأن الجميع سيهزأ منه ويحسبه زائرا غريبا على صف مشحون بالصراعات الوحشية.
رابعا: سرعة الغضب: لدينا سرعة شديدة للغضب والتفاعل السلبي مع بعضن، وهذا يتحقق بسبب درجة الانفعالية العالية التي تتوطن أعماقنا، وتتمكن من نفوسنا ومفردات سلوكن، فنحن نميل إلى إعمال العاطفة قبل العقل وتسخيره لصالحها وليس العكس. وهذا السلوك متصل بقوة بالتفاعل ما بين العقل والواقع، ونحن في كثير من تفاعلاتنا يكون العقل معطل، والعواطف نشطة وفعالة في تقرير مصير الموقف ونتائجه الأليمة دائما.
خامسا: الأنانية: الأنانية غريزة صراعية بقائية تفعل في البشر فعلها وتحقق آثاره، والفرق بينها في عالمين، أنها في العالم المتقدم تكون مهذبة ومحكومة بنظام فتبدو عاقلة، وفي عالم متأخر تكون منفلتة ومعبرة عن نفسها بأساليب غابية قاسية قد تؤدي إلى سفك الدماء.
سادسا: رغبة التجاوز والتطاول: في تصرفاتنا تبدو الكثير من مفردات الغاب القبلي، الذي لا يرى في الحياة إلا أن تكون صراعا وتطاولا واعتداء، وغزوا لتحقيق القوة الاقتصادية والمعنوية، وهذه الترسبات السلوكية نعبّر عنها كأفراد، ولهذا ترانا نتحرك في الكثير من نشاطاتنا وكأننا شيخ القبيلة، ونمارس الأفعال التي تدلل على ذلك، فيحسب كل منا أنه شيخ على الآخرين من حوله، وهذه الظاهرة تمضي على جميع مستويات تفاعلاتنا المتنوعة.
سابعا: ضعف ثقافة الاصطفاف والنظام: الواضح في سلوكنا أن المسؤول أو الذي لديه صفة قيادية في الدولة والمجتمع لا يلتزم بالنظام والوقوف في الصف، لأن ذلك يُحسب نوع من الإهانة وعدم الاحترام، وإنما على الجميع أن يتنحى لكي يكون هو في المقدمة، وهذا سلوك مكرر واعتادت عليه الأجيال، بينما في المجتمعات المتقدمة، لا بد من من وقوف الإنسان في الصف والانتظار حتى يأتي دوره. فعندما تذهب إلى أي مكان (سوق أو عيادة أو مسرح أو ملعب)، تجد ثقافة الوقوف في الصف هي السائدة، وأي دفع أو عدم انتظام قد تؤدي إلى عواقب قانونية. فمن الواجب إشاعة ثقافة الاصطفاف لكي لا تغمط حقوق المواطنين ويتعرضون للأذى وربما الموت كما حصل في مصر مؤخرا في إحدى الملاعب الرياضية.
ثامنا: نزعة الافتراس: هل هناك نزعة افتراسية في عدم القبول بالاصطفاف، وكأن الهدف أيا كان، ما هو إلا فريسة نتسابق أو نتزاحم على افتراسه، وكل منا يريد أن يفوز بأطيب ما فيه، فتجدنا نفترس بعضن، ونتسبب بخسائر مؤلمة ومروعة. وقد يكون التفكير بالأسباب خطوة أولية للوصول إلى العلاج المفيد، وربما يكون الحل الأمثل لهذه العلة، أن تكون جزءا مهما من مبادئ السلوك التي نتعلمه في المدرسة ونربي أجيالنا عليه، لكي نبني مجتمعا يقدر قيمة الدور وضرورة احترام حقوق الآخرين ووقته. وعندما تجدنا قد قبلنا بذلك كأسلوب اجتماعي حضاري في التعامل ما بين الناس، عندها فقط يحق لنا أن نقول بأننا قد تقدمنا وتجاوزنا مراحل التأخر المؤلمة الفاعلة في كياننا المجتمعي.
واقرأ أيضاً:
قلوبنا واليوم العالمي للقلب!! / الإسلام بين الإمارة والحضارة!!