عندما يستعمل الطبيب النفسي مصطلح الأصوات فهو يعني الهلوسة السمعية. وعندما يسمع المريض هذا السؤال من طبيبه يشعر بأنه دخل مرحلة الجنون النفسي. وإن كنت مولعاً بعالم الفنون فلن تتعجب من محاولة بعض الأدباء والفنانين إحاطتها بهالة من الرومانسية تصلح للعرض على شاشات التلفزيون ودور السينما العالمية. ولكن الحقيقة هي أن سماع الأصوات بدون وجود حافز أو منبه سمعي تعني الهلوسة السمعية وبما أن مصطلح الأصوات هو الشائع بين الأطباء والمرضى هذه الأيام فمن الأفضل استعماله لمناقشة هذه الظاهرة بدلاً من استعمال مصطلح الهلوسة السمعية. مصطلح الهلوسة بحد ذاته مصطلح ثقيل الاستعمال على الطبيب والمريض على حد سواء.
تصنيف الأصوات:
يمكن تصنيف الأصوات إلى صنفين من الناحية العملية:1- أصوات لا جدال فيها.
2- أصوات يمكن الجدال فيها.
هذا ليس التصنيف الشائع للأصوات وإنما الغرض منه تبسيط هذا المفهوم للقارئ.
هناك أصوات لا يسمعها الفرد ولكنه يدعي أنه يسمعها. يلجأ إلى هذا السلوك المرضي الكثير من المبتلين بشخصيات هشة وهستيرية أو معادية للمجتمع. الغاية من هذا الكذب هو التنصل من المسؤولية والتلاعب على القانون والآخرين أو جذب عطف للمجتمع. لا يمكن وضع مثل هذه الشكوى إلا في إطار الكذب ولا فائدة من وضعها على بعد نفسي تحليلي ومحاولة تبريرها على أنها جزء من اللاشعور.
وهناك أصوات على القطب المعاكس تماما لأصوات الكذب والخديعة وهي أصوات تشكل جزءً من أعراض الصف أو الترتيب الأول للفصام First Rank Symptoms of Schizophrenia . لا يشعر المريض بأن هذه الأصوات مجرد خيال وإنما حقيقية بكل معنى الكلمة. الكثير منهم يقول بأنه يسمعها من خارج الرأس والآخر يقول بأنها داخل الرأس ولكن الأهم من ذلك هو تفسير المريض لهذه الأصوات وهو أنها حقيقة ومصدرها خارجي بدون شك. على ضوء ذلك ليس هناك فائدة سريرية من تقسيم هذه الأصوات أحياناً إلى أصوات حقيقية True (من خارج الرأس) أو زائفة Pseudo (داخل الرأس) ومن الأفضل الاستناد إلى تفسير المريض لمصدرها الخارجي.
هناك ثلاثة أنواع من أصوات الصف الأول:
1- محادثة تتحدث عن المريض وتشير إليه بهو أو هي أو أحياناً اسمه.
2- التعليق المستمر على كل ما يفعله المريض وكأنها تعليق مذياع على شخص أو حدث.
3- سماع صدى كل فكرة جديدة من خارج الرأس أو في داخله. هذه الظاهرة قد تكون أحياناً في غاية الشدة ومؤلمة بكل معنى الكلمة.
هذه الأصوات لا يسمعها المريض لدقائق فقط وإنما لعدة ساعات، وقلما يتذكر بدايتها بدقة ونادراً ما يصل المريض إلى عيادة الطبيب النفسي خلال أيام أو أسابيع. بعبارة أخرى هذه الأصوات تدخل مرحلة مزمنة والحقيقة هي أن الفصام مرض مزمن لا يمر مر العابرين على المريض ويجب توخي الحذر من استنتاجات دراسات توحي بأن الشفاء منه يكاد يكون مضموناَ في الكثير من الحالات وخاصة إن كنت تعيش في بلد فقير من بلدان العالم الثالث. الحقيقة المرة في الممارسة السريرية غير ذلك والعناية الطبية والاجتماعية للمريض رحلة عمر طويلة.
أصوات موضع جدال:
بين القطبين أعلاه هناك أصوات عدة يمكن وصفها وملاحظتها في ممارسة الطب النفسي. يسمع الإنسان أحياناً صوتا يذكر اسمه ويدرك تماماً بأن هذا مجرد خيال. هذه الملاحظة بالذات في غاية الأهمية لأنها تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن سماع الأصوات هي ظاهرة طبيعية وغير مرضية وهذا في غاية الغلو.
هناك أصوات متعددة يصفها المرضى المصابون بنوبة اكتئاب وجداني أو هوس. هذه الأصوات قلما تكون بشدة أصوات الفصام وتتميز عنها بأن محتواها يكاد يكون مطابقاً للحالة الوجدانية للفرد ولا تشكل جزءاً كبيراً من أعراض المريض النفسية. لكن ملاحظة الأصوات في الاضطرابات الوجدانية يدعم حقيقة واحدة في غاية الخطورة وهي دخول المريض في مرحلة ذهنيه تتوازى مع شدة أعراض مرضه وضرورة علاجه وحمايته من نفسه وأحياناً حماية الآخرين منه عن طريق دخوله إلى المستشفى للعلاج.
عند هذا المنعطف لا بد من مناقشة أصوات القيادة Command التي تأمر المريض بممارسة سلوك ما وتتسلط عليه تدريجياً. المصيبة أحياناً أن هذه الأصوات تأمر الإنسان بالانتحار أو قتل الآخرين ومن جراء ذلك لا بد من الاستفسار عنها في جميع الاضطرابات النفسية الفصامية والوجدانية بل وحتى في بعض اضطرابات الشخصية. أصوات القيادة في غاية الأهمية من الناحية العلاجية ولكنها لا تشير بحد ذاتها إلى تشخيص معين وقيمتها في الوصول إلى التشخيص الدقيق لاضطراب الفرد يكاد يكون صفراً.
لا تقتصر الشكوى من الأصوات على الاضطرابات الفصامية والوجدانية وإنما تشمل أيضاً اضطرابات الشخصية وأحياناً اضطرابات عصابية ومنها الحصار المعرفي (الوسواس القهري). يواجه الطبيب معضلة في التواصل مع هؤلاء المرضى وأصواتهم ومحاوله وضع شكواهم في إطار نفسي مرضي. المصابة بإضطراب الشخصية الحدية تتحدث عن أصوات تأمرها بجرح نفسها و كذلك الأمر مع الذي يحمل صفات شخصية معادية للمجتمع. هناك عدة احتمالات لتفسير هذه الشكوى ومنها:
1- محاولة المريض تفسير معاناته وأفكاره عن طريق وضعها في إطار الأصوات التي هي بدورها تعتبر علامة كبرى من علامات الأمراض النفسية الجسيمة.
2- تعاطي المريض لمواد كيمائية محظورة مثل الحشيش والكحول التي قد تؤدي إلى الأصوات.
3- إصابة المريض باضطراب الفصام أو اضطراب وجداني يختفي خلف ستارة اضطراب الشخصية.
هذه الاحتمالات نفسها يمكن تطبيقها أيضاً على المرضى المصابين بالحصار المعرفي. بعد فترة زمنية من المعاناة من أفكار اجترارية يبدأ الحديث عن الأصوات. يجب توخي الحذر في هذه الحالة فعلى الرغم من أن المصاب بالحصار المعرفي أقل عرضة من غيره للإصابة بالفصام ولكن هناك قاعدة يغفل عنها الكثير وهي أن الطقوس والأفكار الحصارية قد تكون مجرد عمليات دفاعية نفسية غير شعورية لفصام مختبئ لا يمتلك القوة الكافية بعد لكسر دفاعات الفرد.
هناك تصانيف متعددة للأصوات منها:
1- أصوات غير ناضجة Unformed .
2- أصوات ناضجة Formed .
من الافضل استيعاب هذا التصنيف على بعد يبدأ من أصوات بدائية من ضجيج لا يمكن تمييزه مروراً بكلام غير مفهوم ونهاية بكلام في غاية الوضوح. كلما ازدادت الأصوات نضوجاً كثرت ملاحظتها في اضطرابات طب نفسية جسيمة.
وأخيراً هناك الأصوات الموسيقية. سماع الموسيقى مع غياب مصدر خارجي لها يكثر ملاحظته مع الأصوات الأخرى في الاضطرابات النفسية. قد تكون الأصوات الموسيقية هي الشكوى الوحيدة للمريض المصاب بالصمم أو ضعف السمع في كبار السن. لا تحتاج الأصوات الموسيقية إلى علاج إن كانت العرض الوحيد في مريض لا يستاء منها وخاصة كبار السن في عزلتهم وعدم اكتراث الآخرين بهم.
نموذج مبسط لظاهرة الأصوات:
يستلم الإنسان محفزات صوتية وسمعية وجسدية بصورة مستمرة. يتم معالجة هذه المحفزات في المخ ويتم بعد ذلك خزنها في منطقة الحصين Hippocampus خلف الفص الصدغي الأيسر للدماغ في غالبية الناس. هذه المنطقة أشبه بقرص أو اسطوانة الكمبيوتر الصلبة التي تخزن جميع المعلومات، بل وهي أوسع حجماً من أي اسطوانة كمبيوتر صنعه أو سيصنعه الإنسان. هناك أيضاً اسطوانة إحتياطية في الجهة اليمنى وعلى ضوء ذلك لا يفقد الإنسان ذكريات ماضيه إلا إذا أصيب بداء يؤدي إلى تدمير الإسطوانتين.
المدخل إلى هذه الاسطوانة1 وطرق تواصلها مع بقية مناطق الدماغ يتم عن طريق ناقلات كيمائية عصبية. يلعب الدوبامين دوره في تحفيز الإنسان واندفاعه ويؤثر على فعالية اسطوانة الذكريات. على ضوء ذلك نلاحظ بأن محتوى الأصوات يتناسب مع الخلفية الحضارية للإنسان فهناك من هو أصواته دينية بحتة وهناك من تراه يستمع إلى أصوات من الكواكب الأخرى أو أصوات أجهزة أمنية تلاحقه وتتجسس عليه. زيادة فعالية الدوبامين بصورة أو بأخرى أو عدم انتظامها تشكل القاعدة التي يرتكز عليها الطب النفسي في علاج الفصام والسيطرة على الأصوات. جميع مضادات الذهان تثبط من فعالية الدوبامين ولا يمكن الاستغناء عنها2.
رغم أن هناك علاجات نفسية ومعرفية سلوكية تستهدف الأصوات أحياناً ولكن من السذاجة الاستناد عليها بدون عقاقير مضادة للذهان فمثل هذا الفعل يشكل خطورة على المريض وعلى المجتمع بل وحتى على المعالج النفسي. هذه الدراسات تفتقد إلى الالتزام العلمي الصارم لطرق البحث العلمي حالها حال الكثير من الدراسات في مجال العلاج النفسي3.
المصادر:
1- Harrison P (2004). The hippocampus in schizophrenia: a review of the neuropathogical evidence and its pathophysiological implications. Psychopharmacology 174: 151-162.
2- Leucht S, Tardy M, Komossa K, Heres S et al(2012). Antipsychotic drugs versus placebo for relapse prevention in schizophrenia: a systematic review and meta-analysis. Lancet 379: 2063-2071.
3- Morrison A, Turkington D, Pyle M, Spencer H et al(2014).Cognitive therapy for people with schizophrenia spectrum disorder not taking antipsychotic drugs: a single-blind randomised controlled trial. Lancet 383: 1395-1403.
واقرأ أيضًا:
التعلق Attachment / على هامش الشيزوفرانيا / وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي / نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية