كنت قد كتبت عن الحياة ونويت بعدها أن أكتب عن الحرية لكن كثرة الباكين حولي على التغيير وفشله أو تعثره أو إحباطه دفعتني إلى أن أكتب عنه ملاحظاتي السريعة هذه!
بالنسبة لشعوب غافلة على هامش الحياة تتداول عناوين بائسة، وتغرق في أوحال غيبوبة وعي عميقة ومستمرة لعقود، وربما لقرون، فإن بينها وبين إدراك مواقعها، والتحديات التي تواجهها، والضياع والغياب الذي تغيب فيه.. فجوة، بل هوة عميقة، وأستار كثيفة مزقتها جزئيا انتفاضات/ثورات ربيع عربي في أرض طال شربها لدماء الأبرياء حتى أدمنتها، وطال صمتها تحت دهس ودبيب نعال الجزارين ولصوص الدنيا، والدين .. حتى سميناهم ولاة الأمر، وهم مغتصبوه، يسيطرون ويتسلطون بولاية الفقيه، أو إمارة المتغلب، وبندقية المسلح الرسمي في مواجهة المسلح غير الرسمي الطامح لركوب ظهورنا بدلا من راكبيها!!
هذا البؤس السريالي، والاغتصاب الجماعي المزمن أزاحت بعض أستاره ثورات الربيع، ولكن أزهاره من الشباب المتفتح على وعي كوني فارق، والطامح إلى مستقبل متحرر من الأوهام والتخريب الذي أصاب الدنيا والدين، ما زال يغيب عنه علم التغيير، وفقه التغيير، وسنن التغيير!
أنا لست معنيا ولا شغوفا بترديد ما يهرف به نفر ممن يرتدون البذلات ورابطات العنق الرخيصة أو الغالية ممن يقدمون أنفسهم بوصفهم خبراء أو متخصصين، وأغلبهم يقيس ما حصل في بلدان الربيع بمقاييس الثورات الكلاسيكية، ويصل به قياسه الركيك إلى أنها ليست بثورات أصلا، ويدخل في وصلة نحيب أو لوم أو نشر وعي كاذب زائف، والقلة المدركة بشكل مختلف لما حصل ويحصل هي بالضرورة مغيبة عن الأضواء، بل وتطرح كلاما جديدا تماما إذا ما قورن باللغو والهذر الذي يملأ الشاشات والعقول، والمفارقة كبيرة جدا بين أن يعيش الشباب الساعي لتغيير عصره بأدواته، ومزاجاته، وأجواءه دون أن يدرك شيئا عن هذه المفاهيم الجديدة والآفاق الجديدة والمستقبليات المختلفة عن هذا البؤس المتداول!!
الكلام الجديد يدور حول تصورات مختلفة للسلطة وإدارتها، وكذلك مواجهة التسلط والهيمنة، وقفزات حصلت في الحياة الإنسانية تصعب جدا من مهمة الفاشيين والمتسلطين التقليدين في إحكام القيود، وملاحقة الأفكار، والمبادرات، وأشكال التمرد والتجمع والمقاومة والبحث عن التحرر!!
أنا مندهش من هذه الجماهير – وبخاصة الشباب الطموح - ممن يعيشون العصر بأدواته بينما ما تزال أفكارهم وصورهم الذهنية وخيالاتهم حول طرق العمل وإبداعات التواصل وتطوير الحياة اليومية والمبادرات الفردية والجماعية بهذا الفقر والتواضع في عالم يمور بملايين التجارب والإجابات على أسئلة يبدو أننا ما نزال نتعتع في طرحها، وهذا أفضل بالطبع من الغياب عنها... كما كنا!!
يبدو غياب الوعي قاتلا، كما نشهد جميعا تداعيات جهلنا الفادح بما يجري من تغييرات جذرية في معادلات السيطرة، والإفلات منها، وحتى في سعي الطامحين إلى نموذج دولة يتآكل على أرضه، ويتحرك المستقبليون فيه إلى تطويره جذريا بما يتلافى عيوب قادحة ونواحي خلل عميقة تكتنفه وتؤثر تجلياتها على راحة الناس وسلامتهم وحرياتهم!!
مدهشا ومؤسفا يبدو موقفنا ونحن نبكي على تعثر تغيير نريده (هنا، الأن) دون أن نتبين بوضوح معالم (هنا، والأن) هذه!!
التغيير عملية ممتدة تبدأ بالوعي الذي هو عملية ممتدة أيضا، ونحن ما تزال تسيطر على عقولنا ذهنية الحملات المؤقتة، والتحول عن الأهداف الكبرى (غير الواضحة) بسبب تعثر أداء، أو سوء تقدير، أو ارتباك مؤسس على تضليل يمارسه أعداء التغيير، رغم أن هذا هو دورهم، وخائب من ينتظر منهم غيره!!
غريب أن نحبس أنفسنا فلا نتعلم من تجارب غيرنا، بل نتجاهلها وننعزل عنها في قمقم مظلم نملؤه بتصورات وأوهام يزرعها ويضخها في عقولنا خصوم التغيير، ونظل نرددها بوصفها الحقائق المستقرة، ونظل نرى العالم وأنفسنا، ولا نرى الفرص الكامنة في المعطيات التي هي فينا، وحولنا... تماما كما يريد لنا خصومنا... أن نرى !!
في تونس العاصمة سينعقد بنهاية الشهر القادم مؤتمر دولي ضخم جدا سيأتي فيه الناس بعشرات الآلاف... من كل فج عميق ليتبادلوا خبرات وتجارب التغيير، ومواجهة الظلم والتسلط، والدفاع عن الإنسان، ومناصرة الحق والخير، ونشر الجمال!!
سيحضر هذا الحشد كثير من ذوي الجدية، وسيغيب عنه أصحاب الأعذار، مع أولئك الذين اختاروا أن يكون نصيبهم من التغيير هو التباكي على ما يتوهمون أنها فرصه الضائعة!!
واقرأ أيضًا:
عن الموسيقى/ أخطر أعداء التغيير