في الضوء ظهر للتغيير في العالم العربي أعداء معروفون محددون أشخاصا وأجهزة ومصالح عصابات متسلطة في الداخل والخارج، لكن الأعداء الأخطر لا يسلط أحد عليهم أي انتباه.
حين بدأت مظاهرات ضد سلطة البعث السوري كان من المعرف سلفا أن العنف الدموي بكل أشكاله ومستوياته سيكون الرد، ولا تملك عصابات السلطة في العالم العربي -أصلا- سوى البندقية، والمدفع، والدبابة توجهها لصدور الناس ورؤوسهم وأفئدتهم التي تجرؤ على تحدي غرور القوة بالقبضة العارية!!
مفهوم عندي منطق تحول أنصار التغيير لاستخدام السلاح والعنف المضاد، لكن تلزم المراجعة لأن أنصار التغيير لم يتعرفوا – حتى الآن - على كل مهارات وأدوات وأسلحة السلمية، ومارسوها بالتالي بشكل ساذج، مقطوع الأنفاس، منبت الصلة عن تراث وتاريخ وخبرات الشعوب في مقاومة الظلم والتسلط، وحين تحولوا للعنف فاتهم أن حرب العصابات يمكنها أن تنهك المتسلطين لكنها لن تربح الحرب ضدهم على المدى البعيد، ولو ربحت كما حصل في ليبيا فسيكون هذا عبر تدخل خارجي سافر وقح سيطالب بالغنيمة إلا الفتات، وسيطالب أمراء الحرب بأنصبتهم في الغنيمة أيضا، وننتقل من حرب الناس المسلحة ضد السلطة المدججة بالسلاح إلى حرب أهلية مكتومة أو معلنة!!
تستفيد السلطة من تحول أنصار التغيير إلى استخدام العنف، بل ربما تختلقه لتبرر درجات أعلى من البطش بالجميع، والإمعان في القتل، ولكن يظل سؤال التحول إلى العنف معلقا ومطروحا كما كان دائما على مائدة الساعين إلى التغيير في مواجهة سلطات مدربة جيدا، وذات خبرة في قتل وقمع شعوبها!!
الذي لا يسلط الضوء عليه أحد هو أن قدرات المتسلطين الصلبة تتآكل بفعل تعاظم جبروت الاختراقات التي تحققها أدوات العصر مهددة أساليب الهيمنة والهيبة والسيطرة والقبضة الحديدية، وبدلا من فهم أعماق وأبعاد هذه الاختراقات وتطوير أدواتها يتجه بعض أنصار التغيير بسذاجة مفرطة، ورعونة فادحة إلى الرد على عنف السلطة وفجورها بعنف مضاد يدفع الناس جميعا فاتورته!!
آخرون يتورطون في مسار آخر لا يقل بؤسا وهو مسار حصر الزخم الثوري في دهاليز وألاعيب السياسة وسيرك التمثيل "الديمقراطي"، ويندمج الممثلون في إعطاء آمال كاذبة للجمهور المسكين الذي يكبح جماح تمرده، ثم ما يلبث أن يغضب لأن الأحوال تبقى كما هي، ومجرد تغيير أشخاص الحكام، أو حتى طريقة اختيارهم لا ولن يغير من معادلات الثروة والسلطة والفساد... شيئا.. في البلاد!!
أراقب خطاب أغلب أنصار التغيير فأجده – في عمقه - يحمل تمجيدا وتضخيما لقدرات المتسلطين بما يعطي صورة نفخة كاذبة عن سلطة قادرة على إسكات كل صوت، وإخماد بل إجهاض كل حركة، وقوة تمتلكها لتقهر بها شعبها!!
رغم إن أية نظرة عميقة دقيقة متجردة ستكشف عن خروج الأمور عن السيطرة بالمفهوم الصلب، بينما يترك أنصار التغيير ملعب السيطرة الناعمة فارغا للمتسلطين يتلاعبون بالعقول، ويأسرون الناس بقصص الخوف، ويضخون في روعهم أن السلطات قادرة ومسيطرة رغم أن الوقائع اليومية تكذب هذا في كل لحظة!!
هذه المبالغة في قدرات أعداء التغيير إنما هي خدمة خفية يقوم بها أنصاره مجانا في خطابهم اليومي، وفي حياتهم الروتينية، بحيث إنهم يختلقون ويتداولون صورا ذهنية تقوي موقف خصومهم في البطش بهم!!
من جهة أخرى يتعامى أنصار التغيير عن رؤية مواردهم الحقيقية شديدة الثراء، ثم يتباكون على شح الموارد!!
يحصرون النضال في التظاهر مثلا ثم يشهقون في بكاء عميق عمن يا ترى مستعد للتظاهر!!
يحصرون معاني الثورة وممارستها فيما لا يطيقه غير آحاد الناس، أو مجموعات محدودة، وإن كبرت!!
في مجموعة ما على الفيسبوك شاء مديرها أن يسأل الأعضاء عن تخصصاتهم الدراسية، وعن اهتماماتهم الحياتية لينسكب سيل من التعريف بتنوع كبير في الأجيال والخلفيات العلمية والهوايات.. رأيته فاندهشت وقلت لنفسي: من يستثمر هذه الكفاءات الهائلة؟؟ ولو أن أحد المتوهمين ممن يرددون خرافة الدولة كان معي لأشبعني تخريفا، وكأنه لا يرى أن العصابات قد اختطفت دولته المنتظرة، ولن تفلتها!!
حديث الموارد يطول، والوعي بها ضئيل، ورب متباكي على التغيير وتعويقه لا يكاد يرى ما تحت قدميه، أو حوله.. من موارد، فضلا عن أن يتواصل معها ويستثمرها!!
الغفلة عن معالم العصر الذي نحيا، وعن قوة خصوم التغيير الحقيقية، ونقاط ضعفهم، والغفلة عن ثراء الموارد البشرية والتكنولوجية والمادية للناس – أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير - هذه الغفلة وتداعياتها تخلق أخطر أعداء التغيير!
واقرأ أيضًا:
عن التغيير / عرب... ومسلمون... ويسار أوروبي!!