في المقال السابق تعرضت لبعض ما وصلني في لقاء غلب الشباب على حضوره وتحدثت فيه باحثة دكتوراة مصرية تدرس بالنمسا (سارة منير) عن الجماهير في أفكار غوستاف لوبون وآخرين... وجرت فيه مناقشات تمنيت لو تم توثيقها للاستفادة منها وتطويرها... حيث أن الموضوع يحتاج لتعميق وكثير نقاش.
لوبون مهتم بالعلاقة بين الحالة الجمعية والرشد في الحركة والقرارات... ويلزم الاطلاع على أفكاره أكثر، هو وغيره -قديما وحديثا- لمعرفة تطور النظرة إلى الجماهير وعلاقتها بالتغيير، ولكنني أيضا صرت أرى أن تغيرات هائلة قد حصلت في شكل الحياة، وأساليب نقل وتداول الخبرات والمعرفة، بما يجعل هذا التقليب التاريخي في المصادر والأفكار غير كافيا –على الإطلاق- لفهم حركة الجماهير حاليا، وتبدو 25 يناير مثالا دالا على هذا.
الجماعية العلاجية والتعاضد والتساند وإعادة اكتشاف قوة أن نكون معا، ونتحرك معا، ونتحدث معا، ونتكلم معا، بلا حواجز، ولا تحفظات عرقية، أو دينية، أو طبقية، وبلا أية تقسيمات، وباستثمار عبقري للطاقات، وبهجة قضاء الأوقات، وأشكال التواصل والتعبير والحشد والصمود والتحريك، والاستسلام للحكمة الجماعية، وقوة السلم، والتركيب السلس، والمجاورة بين المختلفين، وتضفير وتوليف عناصر تبدو متنافرة في تكامل مبهر... بحيث صارت الـ 18 يوما شيئا ملها للإنسانية كلها، وتضافرت جهود جبارة على طمسها، وتشويهها... لتصبح مجرد ذكرى باهتة في عقول ونفوس بائسة.
في فيلمها الوثائقي إلهام (كيف حركت الأيدلوجية... جسمنا العام) تعرضت المخرجة الصربية "مارتا بوبيدوفا" لمسألة احتشاد الجماهير، والوعي المحفز له، الباعث عليه، والمتداول فيه، وأغراضه، بشكل تتجاوز تداعياته مجرد استعراض حلقات من تاريخ يوغوسلافيا السابقة - صربيا الحالية.
من وجهة نظري تضمن الفيلم نقدا لاحتشاد الناس، وأغراضه في ظل الاستهلاكية والمادية، وهيمنة فكرة المتعة السريعة الوقتية، وطغيان المظاهر الاحتفالية الشكلية المعاصرة... مقارنة بماضي التوحدية الشكلية في عصور الشمولية، منتصف القرن العشرين.
25 يناير كانت شيئا مختلفا ومتجاوزا يتضمن النضالية والاحتفالية معا، كما يتضمن الدينية والدنيوية معا، كما يتضمن السياسي والاجتماعي مع الفني والثقافي والروحاني... الأمر الذي كتبه المشاركون فيه على جدران ميدان التحرير وما حوله، حيث رأيت بنفسي كتابات مبهرة على حوائط شارع مجلس الوزراء وكأنها وثائق تأسيسية لبرلمانات شعبية... راقية جدا، ومتجاوزة للديمقراطية التمثيلية وبؤسها، وكل الكلمات كانت مكتوبة بأقلام ملونة على الجدران التي تم طلاؤها بشكل متعمد فور خروج الناس من الميدان، بينما تقاوم الزمن على مدخل شارع طلعت حرب من ميدان التحرير العبارة التي كتبها أحدهم: هنا الميدان... مسجد وكنيسة وبرلمان.
هل درس أحد 25 يناير بوصفها بداية لجيل مختلف من الثورات؟؟ أو ربما أسميها "ما بعد ثورة"، تمهد لعصر جديد يتلمس الطريق إلى ما تسميه الأدبيات على استحياء... ما بعد الدولة؟؟
هل درس أحد 25 يناير بوصفها تطرح نموذجا جديدا للوعي الجمعي، والنسيج الجمعي من جهة حشده، وصموده، واستثماره، وإعطاء وظائف متنوعة له تتجاوز الهدف الاحتجاجي؟؟
هل رأى أحد في 25 يناير إرهاصات لجماعية تعاونية جديدة على المصريين والعرب، ولا مفر من اعتمادها مدخلا للتفاوض الجماعي، والتغيير المجتمعي، والتطهير، والتوليد السياسي، والفعل التغييري المباشر؟؟
هل وعى أحد 25 يناير بوصفها علامة فارقة تؤشر على نقلة تنتظرها الإنسانية من بؤس سلطة النخب، ورشادة مزعومة للديمقراطية التمثيلية، وكوابيس الدولة الحديثة، وقد تحول كل هذا إلى مساخر وكوارث تعاني منها الشعوب بدرجات متفاوتة؟؟
يبدو أن النظرة إلى الحدث ما تزال أسيرة القوالب التقليدية في التقييم، كما كانت التجربة ضحية القوالب التقليدية في التفكير، والتسيير!!
والعودة ممكنة... بتطوير الخيال والنظر، ومراجعة البدايات والمآلات، ونقد الاستسلام للتعامل البائس الواهن الكسول مع أمل يبدو الأهم إن لم يكن الأوحد أمام العرب ليعتقوا مما هم فيه... فقط إذا فهموا الومضة والدروس.
واقرأ أيضًا:
عرب... ومسلمون... ويسار أوروبي!!/ الجماهير والتغيير 3