تُصدر هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها سنوياً عشرات الدراسات التي توفر قراءة عميقة لحال عالمنا العربي وواقعه، ويُعدها خبراء متمرسون في علومهم، وتتناول، إلى جانب السياسة، الملفات الاقتصادية والاجتماعية. أهميتها تكمن في أنها توفر حلولاً، وإن كانت غير ناجزة، للمشكلات التي تعصف بعالمنا العربي. فعلى سبيل المثال، أصدرت لجنة هيئة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا"، مطلع العام الماضي، تقريراً بعنوان "التكامل العربي سبيل لنهضة إنسانية"، بحث الحواجز التي أعاقت درب التكامل العربي، منذ خمسينيات القرن الماضي. ويعزو التقرير فشل الدول العربية في تحقيق التكامل إلى غياب الشفافية والحكم الرشيد وضعف تمثيل المواطنين في مؤسسات الدولة. بالإضافة، طبعاً إلى الضرر الذي ألحقته (إسرائيل) بأمتنا العربية.
الأهم، أن التقرير يُقدم حلولاً، أو يرسم على الأقل "خارطة طريق"، تُساعدنا على الخروج من محنتنا وتشرذمنا. بمعنى آخر، تقدم لنا هذه التقارير "المعرفة" التي على أساسها يُمكننا التقدم والتطور. مثال آخر، تقرير البنك الدولي عن تداعيات نزوح اللاجئين السوريين على الاقتصاد اللبناني. وهنا أيضاً، يُقدم واضعو التقرير، وهم خبراء اقتصاديون، بالأرقام والحقائق، التكلفة التي يدفعها لبنان نتيجة الأزمة السورية ونزوح السوريين إليه. ويُقدر البنك الدولي الخسائر التي تكبدها الاقتصاد اللبناني، حتى نهاية العام الماضي بـ7.5 مليارات دولار أمريكي.
كما حذَّر التقرير من التداعيات الاجتماعية والأمنية على اللبنانيين والسوريين، وخطر تراجع الخدمات العامة، وجميعها أمور بدأنا نشهد انعكاساتها السلبية. من شأن مثل تلك التقارير أن تُضيء بالحقائق والوقائع ما نعيشه من واقع أليم اليوم، وتحثنا على عدم الاكتفاء بالكلام والأقوال التي لا تستند إلى حجة أو دليل. وما هذان التقريران إلا غيض من فيض!
لكن، ما يُثير دهشتي في هذا الموضوع أن تلك الدراسات غالباً ما توضع جانباً، ولا يجري الالتفات إليها في عالمنا العربي؛ فالمشرعون والساسة في دولنا لا يتمعنون، بل وبعضهم لا يكترثون، بـ"المعرفة" التي تتضمنها إصدارات المنظمات الدولية، ربما لجهلهم بها، أو لموقف مسبق يحملونه تجاه هيئة الأمم المتحدة. فإزاء ما نشهده، اليوم، من حالة تفكك داخل المجتمعات العربية، واستبداد وفقر وأمية، ألا يحتاج المشرع العربي إلى نور يُضيء له، ولنا، درب التطور والاستنارة؟ أليس من الأجدى أن يطلع على ما تقدمه هذه الدراسات من معلومات وحقائق؟ من شأن البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن تجعل الحُكام أكثر فاعلية في حكمهم، إذ يُصبحون على دراية ومعرفة بالمشكلات التي تُعاني منها مجتمعاتهم.
فما من حل لأزمات المنطقة، قبل تشخيص محكم لها وللأسباب الكامنة وراءها، وهذا يحتاج، أولاً وأخيراً، إلى تحديد ماهيتها بشكل علمي، وبالدليل والحجة. ومن شأن هذه المقاربة أن تُحسّن أداء المعارضة، لتُصبح معارضة أكثر علماً واطلاعاً في مواقفها. لذا، فإن قراءة الدراسات الصادرة عن المنظمات الدولية، بتمحيص واجب على المسؤولين والحُكام، لعلهم يستفيدون من المجهود الفكري والإصلاحي الذي تُقدمه.
وفي ظل العولمة التي نشهدها اليوم، نرى الدول المتقدمة تتسابق للاستفادة من المعرفة، أياً كان مصدرها، فيما نحن ما زلنا نستبعدها ونرفضها. ولكي يُكتب النجاح لوعود السياسيين والحُكام بشأن تمكين المواطن، والتنمية المستدامة، واحترام حقوق الإنسان، لا بد لهم من أن يبنوها على المعرفة. وظيفة هيئة الأمم المتحدة هي التصويب والدعم وكبت نزعات التفرد والاضطهاد والتمييز. هذه هي قيمها، وهدف الدراسات التي تقدمها لنا.
جاء "الربيع العربي" بحلم الديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة التي تساوي بين جميع أفراد الوطن الواحد. لكنه، وللأسف، اصطحب معه أوهاماً وأساطير وخرافات، أفرزت ومازالت تُفرز، عنفاً وقتلاً وتدميراً. لا بد لنا من أن نعود إلى مطالب الثورات الشعبية التي هزَّت العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، وأن نقضي على جميع تلك الايديولوجيات المضللة والموهمة التي تنخر منطقتنا، ولن نستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا من خلال العلم والمعرفة.
واقرأ أيضاً:
المعرفة والقوة!!/ الفرق بين العلم والمعرفة والفهم/ نحو مجتمع يدعم المعرفة في زمن الضغوط