عَبَّرَ فرويد (Freud ,1907) عن وجهةِ نظره في الطقوس القهرية التي يقع مريض اضطراب الوسواس القهري فريسةً لها، فقد كانَ يرى أن هناكَ ما هوَ أعمقُ من التشابهُ الظاهري ما بينَ الشعائر الدينية وبينَ الطقوس القهرية لدى مرضى العصاب القهري فهم يمارسون هذه الطقوس بطريقةٍ دقيقةٍ وكأنَّ قانونًا مستترًا يتحكم في طريقة ممارستهم لهذه الطقوس بالرغم من أنها تبدو للآخرين وربما للمرضى أنفسهم عديمةَ المعنى وكذلك يبدو الالتزام بدقة تنفيذها، لكنَّ لا مفرَّ للمريض من الانصياع لها لكي لا يعذبهُ القلق الناتج عن إهماله لهذه الطقوس؛
وينتجُ عن ذلك بعد فترة من المرض أن تصبحَ الطقوس القهريةُ تلك متسمةً بما يشبهُ القداسة لدى المريض، ثم يقرر فرويد أن أي نشاط يقوم به الإنسانُ بشكلٍ متكررٍ وبصورةٍ دقيقةٍ حسب قواعدَ معينة وثابتة يمكنُ أن يصبحَ فعلاً قهريًّا ما دام بعيدًا عن المنطق أي ما دام الشخصُ لا يعرفُ تفسيرًا منطقيا لالتزامه بحرفية الأداء غير الخوف والقلق إذا لم يلتزم وبكل ما يستطيعُ من دقة، فإذا أردنا أن نقارنَ ما بينَ الطقوس القهرية وبين الشعائر الدينية فإننا سنجدُ نقاط تشابه ونقاط اختلاف، فأما نقاط التشابه فهيَ:
-1- وخزاتُ الضمير والخوفُ والقلق الذي ينشأ عن إهمال أو عدم الأداء الدقيق لأيٍّ منهما فأنت إن لم تقم بأداء شعيرة دينية مفروضة عليك كالصلاة مثلاً في ميقاتها سوف تحس بوخز الضمير وبالقلق ونفس الشعور ينتاب الشخص الموسوس إذا لم يلتزم بأفعاله القهرية.
-2- كون هذه الأفعال مشروطةً بتفرغ الشخص ذهنيا وجسديا لها عند أدائها فلا يجوز أن تقطع الشعيرة الدينية لتفعل شيئًا آخر أي أنهُ لابد من إتمامها أولاً قبل البدء في عملٍ آخر كما لا يجوز أن تفكرَ في شيءٍ سواها أثناءَ أدائكَ لها وهذا ما نجدُهُ في الأفعال القهرية أيضًا.
-3- الاهتمام المفرط بحرفية الأداء للتفاصيل الصغيرة للشعائر الدينية والذي يشبهُ أيضًا الاهتمام المفرط بحرفية الأداء للتفاصيل الصغيرة للطقوس القهرية.
وكلام فرويد هذا كلامٌ منطقي وواقعيٌّ أيضًـا ولكنهُ يقفُ عندَ حدودَ المشاهدة من الخارج فيما يبدو!، وأما نقاطُ الاختلافِ كما رآها فرويد فهيَ:
-1- كونُ الطقوس القهرية متباينة تباينًا شديدًا من حيثُ الشكل بينما يوجدُ ما يربطُ بين طريقة الأداء وتوجه الشعائر الدينية كلها في معظم الديانات.
-2- تؤدى الشعائر الدينية عادةً في العلن بينما تؤدى الطقوس القهرية في أغلب الأحيان في إطارٍ من السرية والخصوصية نظرًا لخوف الشخص من أن يسخرَ منهُ الآخرون.
-3- تبدو الطقوس القهرية في معظم الأحيان أفعالاً حمقاء بلا معنى ولا مغزى مقارنةً بالسموِّ الروحي والفكري العقديِّ الرمزيِّ الذي تُـضْفِـيه الشعائرُ الدينية على المؤمنين بها حين يمارسونها.
إلا أن فرويد بعد ذلك يعودُ إلى نفيِّ بعض نقاط الاختلاف تلك حين يقول أن المحلل النفسي يستطيعُ أن يستنتجَ المعنى الخفيَّ للأفعال القهرية ولتفاصيلها؛ لأنها ذاتُ معنى ومغزى للمريض حتى وإن لم يكن هذا المعنى موجودًا في وعيه؛ أي أن فرويد يريدُ أن يقول أن الأفعال أو الطقوس القهرية والشعائر أو الطقوس الدينية هما في حقيقة الأمر شيءٌ واحدٌ لكنهُ لا يقول ذلك صراحةً وإنما يقول في النهاية أن الطقوس القهرية في مريض العصاب القهري (اضطراب الوسواس القهري) هيَ صورةٌ زائفةٌ أو محاكاةٌ ساخرةٌ للشعائر الدينية، ثم يعود فرويد مرةً أخرى لعقد المقارنة بين الشعائر الدينية والأفعال القهرية فيقول أن من شروط المرض في العصاب القهري أن المريض يفعلُ أفعالهُ القهرية دونَ أن يكونَ على دراية تامةٍ بسبب فعله لهذه الأفعال بهذه الطريقة فهو لا يفهم المعنى الموجود في لا وعيه بالطبع والذي يخدمُ حسب نظرية التحليل النفسي دوافع واندفاعات لا واعية، ونفس الشيء يحدثُ في ممارسة الشعائر الدينية فالمؤمن التقي العادي لا يشغلُ نفسهُ بمعرفة الحكمة من أدائه لطقوس دينه بشكلها الذي تؤدى به رغم إمكانية وجود تفسير لها عند رجال الدين أو المتفقهين فيه ولعلهُ يكتفي بأي معنى رمزيٍّ لها في وعيه.
وبعد ذلك يناقش فرويد دوافع مريض العصاب القهري فيضعُ افتراضًا لوجود ثلاثة دوافع موجودة لدى كل من الشخص المتدين ومريض العصاب القهري، ففي حالة مريض العصاب القهري:
-1- هناك إحساس غير واعٍ بالذنب مصدره الأحداث النفسية التي مر بها المريض في طفولته المبكرة، ويتجدد هذا الإحساسُ غير الواعي بالذنب بسبب الأحداث النفسية الداخلية أو الخارجية.
-2- تسببُ الأفعال القهرية قلقًا مترصدًا أو متربصًا بالشخص (كلما أهملَ أو تهاونَ في أدائها)، مما ينتجُ توقعًا لسوءِ العاقبة كنوع من العقاب على الأخطاء التي وقع فيها.
-3- تظلُّ الرابطةُ بينَ سبب استثارة القلق والخطر الناجم عن ذلك السبب مختفيةً عن وعي المريض وهو بالتالي لا يستطيع التعامل مع الأمر بصورة منطقية فيلجأُ لا وعيه Unconsciousness إلى استخدام الحيل الدفاعية (أو ميكانزمات الدفاع) Defense Mechanisms لتجنب خطر القلق.
وهذا بالطبعِ وصفٌ صحيحٌ لما يعانيه مريضُ اضطراب الوسواس القهري لكن التفسير الذي يقدمهُ فرويد من حيث ربطه للوساوس بالإحساس بالذنب وبالغريزة الجنسية المكبوتة يظلُّ غيرَ مثبتٍ ويحتاجُ إلى البرهان؛ وأما في حالة الشخص المتدين فيقول فرويد:
-1- هناك إحساسٌ بالذنب كما هو واضحٌ ومؤكدٌ في مشاعر المؤمنين الأتقياء لأنهم يرون أنفسهم مذنبينَ ويؤمنون في قلوبهم أنهم كذلك وحالهم يرثى له "إلا أن يرحمهم اللهُ بالخلاص" .
-2- وينتجُ عن ذلك الإحساس الدائم بالذنب نزوعٌ إلى ممارسة شعائر دينهم بورعٍ ويستهلون أفعالهم اليومية بذلك وكأنهم يقاومون إحساسهم بالذنب ويضربُ المثلُ هنا بذكر الله قبل الأكل مثلاً.
-3- ويعزى كل تعهدٍ مبالغ فيه بإقامة شعائرَ دينيةٍ معينةٍ إلى قيمتها الدفاعية أو إلى الحماية التي تقدمها للشخص المؤمن ويضرب فرويد مثلاً بالصلاة من أجل حفظ الرب للمؤمن.
ويستمرُّ فرويد بعد ذلك في تقديم التحليل النفسي لعصاب الوسواس القهري حيثُ تكونُ الاندفاعات الجنسية الدفينة هيَ المحرك الأساسيُّ لحيلة الكبت Repression الدفاعية، ولكن هذه الحيلةُ لا تنفع فيلجأ اللا وعي إلى محاولات أخرى مستخدمًا حيلاً دفاعيةً أخرى مثل حيلة العزل Isolation ومثل حيلة التكوين العكسي Reaction Formation ولكن كل ذلك لا يفلحُ في إزالة أعراض المريض القهرية والتي تصبحُ في النهاية هي الحل الوسط Compromise الذي يحمي المريض جزئيًّا من القلق من خلال أدائه للطقوس القهرية؛
ثمَّ يحلل فرويد فكرةَ الدين بنفس الطريقة مع ملاحظة اختلاف الغرائز التي يختص الدين بتهذيبها عن تلك التي ينشأ منها العصاب (والتي هيَ جنسيةٌ تمامًا حسب نظريته) وهيَ كذلك عديدةٌ وليست غريزةً واحدةً كما في العصاب ولكنها اندفاعات غريزيةٌ مرتبطةٌ بالأنا Egoistic ، يتدخلُ الدينُ لتهذيبها وقمعها وينتجُ عن ميل الشخص المؤمن لطاعة اندفاعاته تلك إحساسٌ بالذنب والخوف من العقاب الإلهي وتنتجُ كذلك رغبةٌ في المقاومة لهذا الميل وتصبحُ ممارسةُ الشعائر الدينية هنا بمثابة الحل الوسط أيضًا.
ونستطيعُ في النهاية إجمال الاستنتاجَ التالي: فقد رأى فرويد أن وجهَ الشبه الرئيسي بين الوسواس القهري والممارسات الدينية هو: أن التخلي عن الاندفاعات الغريزية للنفس البشرية يمثلُ النقطةَ التي يبدأُ منها كلٌّ من الطقوس القهرية والطقوس الدينية، ولكن هناك فرقًا جوهريا في نوعية الغرائز التي يعنى بها الدينُ فهيَ متعلقةٌ بالأنا أو بتنظيم حياة الإنسان في مجموعها، بينما يقتصر الأمرُ على الغريزة الجنسية في حالة العصاب؛ وعليه فكما كانت ممارسة الطقوس القهرية هيَ الحل الوسط الذي تصل إليه النفس حسب رأي مدرسة التحليل النفسي للتخلص من القلق والخوف فإن ممارسة الشعائر الدينية هيَ أيضًا الحل الوسط الذي يصل إليه المتدين للتخلص من إحساسه بالذنب والخوف من عقاب السماء.
إذن ما فعلهُ فرويد لم يكنْ أكثرَ من رأي رآهُ هوَ يمثلُ فهمهُ للأديان من خلال نظريته التي حاول من خلالها أن يفسر كل ما يستطيعُ تفسيرهُ من معطيات الحضارة البشرية، لم يكن فرويد رجلاً متدينًا بالطبع وكان يعيشُ في عصرٍ كانَ التوجهُ الغربي العامُ فيه يبتعدُ عن الإيمان بالأديان وكانت الفُرقةُ بينَ العلم والكنيسة ما تزالُ إلى حد ما موجودةً في أذهان الكثيرين من معاصريه، كما أن بعض الحالات القديمة للموسوسين من المسيحيين المتدينين كحالة وليام الشهيرة التي كانوا يسمونها ميلانكوليا دينية Religious Melancholy حيثُ كانَ هذا المسيحيُّ المتدينُ يجدُ نفسهُ مضطرًا لقراءَةِ نفس الكتب الدينية كل يومٍ لمدة ثلاث ساعات ثم زادها إلى ست ساعات يوميا ووصل في النهاية إلى أنهُ لم يكن يفعل شيئًا في حياته إلا قراءَةِ نفس الكتب كل يوم!
كلُّ هذا الموروث الثقافي كانَ في ذهن فرويد بالطبع، كما كان هناك في ذلك الوقت نزوع لمحاولة تفسير كل شيء من خلال أي نظرية فلسفية أو اجتماعية تنشأ في ذلك الوقت ولم يكن التوجهُ نحوَ محاولة التكامل بين الأفكار وقبول التعدد الفكري والثقافي قد أخذ مكانَ الصدارة في الفكر الغربي في ذلك الوقت، ومن ينظرُ بعيني رجل يؤمنُ بكل ما هوَ محسوسٌ بالحواس البشرية الخمسة في كل شيء ولا يؤمنُ بوجود لما وراء الطبيعة خارجَ حدود نظريته بالطبع، من ينظرُ بهذين العينين إلى من يلتزمُ بتعاليم دينه التي يفرضها عليه إلهٌ لم يرهُ ويمارسُ شعائرَ دينه لأنه يؤمنُ بأنها لابد تمارس كذلك، وإن لم يفعلها يحس بالخوف والقلق لا بد أن يرى تشابهاً ما بينهُ وبينَ مريض الوسواس القهري؛
أنا بالطبع لا أبرر وجهة نظر فرويد ولا حتى ألومهُ عليها لأنني لا أراها إلا متماشيةً مع توجهاته وعقيدته التي وضعها لنفسه وهوَ حرٌّ في ذلك، لكنني أؤكدُ أن إفراغ حياة أي إنسان منا من الإيمان بوحدانية الخالق وعبودية المخلوق الذي سيسألُ أمام الخالق يمكنُ أن يحول حياة الإنسان كلها إلى مجموعة من الأفعال القهرية (محمد حافظ الأطروني (2002) لأنهُ يفقدها المعنى ولا يقتصرُ الأمرُ هنا على الشعائر الدينية بل إنني أمدُّهُ إلى كل الأفعال التي نفعلها لأنها تكونُ بلا معنى ما لم يضع الإنسانُ في ذهنه وفي روعه أنه محاسبٌ أمام الله سبحانه وتعالى وأنهُ يعيشُ هذه الحياةَ كمرحلة من وجوده وليست كل وجوده كما كان ينطلق فرويد.
المراجع:
1. Freud, S.(1907): The Standard Edition V.IX.Obsessive Actions & Religious Practices.9:117-127,\Religion\ Obsession\ Obsessive Neurosis\displacement\1906-1908\Translated by James A Strachey. London: The Hogarth Press, 1959.
2. أ.د. محمد حافظ الأطروني (2002) : اتصال شخصي.
3. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293
واقرأ أيضاً:
علاج وسواس الوضوء والصلاة معرفيا وسلوكيا مشاركة/ منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري/ وساوس الوضوء : وسواس حفظ الوضوء