الجماهير والتغيير 2
لا أرى أي مستقبل للجماهير العربية والأوطان العربية طالما العقول عندنا ما زالت تفكر، والنفوس تتطلع إلى من يظهر ليقود، ويتقي الله في الرعية!! التي ما تزال تهتف في دعائها: أصلح الله الأمير!!!
أشكال وأساليب الهيمنة التي تعمد إليها سلطة الدولة الحديثة في العالم كله تحاول تطوير نفسها لمواجهة التآكل السريع، والنمو المتزايد لقدرات الناس بسبب زيادة أعداد البشر، ومعدلات حركتهم، وتبادل الخبرات بينهم، بالمقابل تبدو النخب والجماهير العربية كسلى مستسلمة لمفاهيم وممارسات قديمة وعقيمة في حركة الناس لتحسين ظروف حياتهم!!!
ما تزال الجماهير العربية تعتبر الاحتشاد للتصويت في المنافسات الانتخابية، والاحتشاد لمطالبات سياسية أو فئوية، أو للاعتراض على سياسيات حكومية .. هو غاية المراد، وأعلى سقف للديمقراطية المحرمة عليهم، ولا يكاد يفكر أحد أن الجماهير يمكن أن تنخرط فورا في التغيير، وفي محاسبة السلطة والنخب، ومراقبة وفضح الفساد الواسع في ممارساتها، وإدارة التكوين الإنساني والمهاراتي اللازم لامتلاك الوعي، والتمكن من الإمساك بزمام الأمور في شتى المجالات!!
تستسلم العقول والمممارسات لإجراءات وتدابير العزل والعزلة والتصنيف والتمييز وإثارة النعرات والمعارك على أساس النوع الاجتماعي، أو الاختيار السياسي، أو الانتماء الديني أو الجهوي، أو الوضع الطبقي، وحتى النزاعات بين الوالدين والأبناء بحيث تصير الأمة فتاتا لا رابط فيها حقيقي بين إنسان وإنسان، وهو الوضع المثالي للفتك بالجميع، فما زال الذئب يفضل القاصية من الغنم، ولا بأس من أن يدعم ويكرس كافة أشكال الإقصاء ومقدماته بحيث نعيش نحن جميعا حالة من الإقصاء المتبادل!!
المجموعات المناهضة للهيمنة السلطوية بأشكالها الرسمية وغير الرسمية ما تزال تستخدم خطابا هو أقرب إلى الشتم والمعايرات وإعادة إنتاج تجارب سابقة في التعبئة منه إلى استطلاع آفاق جديدة، وتجريب أشكال جديدة من التواصل، وبناء علاقات حقيقية بين الناس تصلح لكي تكون شبكة نسيج، ومحاضن وعي جديد.. يمكن أن يتشكل!!!
الديمقراطية المحرمة هي مسمومة بالأساس فهي في أحسن الأحوال لا تؤدي إلا إلى استبدال سيد مكان سيد فوق عبيد يعتقدون أنفسهم أحرارا، والنقد للديمقراطية التمثيلية هنا لا يأتي لصالح الاستبداد قطعا، ولكن لصالح مراجعة عميقة لخبراتنا المحلية في التحديث الفوقي السلطوي الفاشل، وفي تمزيق أمة ممزقة أصلا بدعوى تنافس حزبي لم يؤد إلى شيء غير أن يزداد الأغنياء والمسيطرون انتفاخا وسيطرة، بينما مساحات البؤس تتوسع لينضم إليها ملايين جديدة.. ويزداد الليل وحشة!!
الوعي تزداد فرصه، وتنفتح له دوائر تتسع كل يوم، ولكن الأعين تغفل عن رؤية الفرص والدوائر لأنها منشغلة بالاهتمام بما يزين لها بوصفه الأجدر بالمتابعة والاهتمام!!
في نقاش جرى مؤخرا بيني وبين شخص راجعني في عيادتي (طلبا للتعافي) قضيت وقتا طويلا في محاولة إقناعه بضرر ولا جدوى متابعة الإعلام العام والسياسي –هذه الأيام- وأفضت في شرح كذب وتضليل ما يقدم فيه، والتأثيرالنفسي السيئ جدا على المتعرض لهذه المواد، ورغم الاقتناع الجزئي بقيت المقاومة حتى ظننت أنه إدمان للسم، واستسلام للبؤس بديلا عن استثمار الوقت والطاقة فيما ينفع ويمتع!!! هل أكون متجنيا إن قلت أنه هكذا يعيش الملايين من العرب؟؟
المتسلطون يعتمدون على ضخ سرديات مشوشة ومحبطة وتخلق أوهاما تبلغ مبلغ التواتر من كثرة التكرار في الإعلام، والناس أغلبهم يعيد إنتاج هذا اللغو والغثاء على وسائط التواصل الرمزي، وفي المجالس والحوارات اليومية فيتكون عالم متكامل من الخداع والزيف يراد له أن يحل محل الحقيقة!!
الحقيقة بسيطة للغاية، وهي أنه حتى الصراعات يمكن تحويلها إلى فرص للتفاهم والتكامل وتمتين أنسجة مجتمع قوي، بل هي المناسبة الأمثل لهذا!!
الحقيقة هي أن السلطات عاجزة عن إحكام قبضة السيطرة، ولكنها تجرب قبضة تزييف الوعي وتزوير الحقائق، وما يزال جمهور عريض مغيب عن وعيه يبتلع اللعبة، وتغيير هذا الواقع ممكن جدا.
واقرأ أيضًا:
الجماهير والتغيير 2/ التغيير والوعي