في مقالي السابق تحدثت عن غياب دور التعليم، وعن ضعف انتشار وتأثير الثقافة في تشكيل، وبالتالي تشويه الوعي الفردي والجماعي للمصريين أساسا، وللعرب عامة، واليوم أكمل.
وسائل الإعلام المختلفة بدأت ترفيهية، وما تزال تقدم المعلومات خفيفة، وغير موثقة بشكل ذي مصداقية، وهي تحاول أن تعطي برامجها بعدا تثقيفيا، وبخاصة في التحليلات، والوثائقيات، حيث تقدم سلاسل برامج مترجمة تقف وراءها عقول، وفرق بحث، وعمل، لكنها تحظى بقليل من اهتمام مشاهد كسول يجري وراء الإثارة في خبر سريع يأتي مقتطعا من سياقه، ومعقبا عليه ممن تختاره الوسيلة الإعلامية ليدعم سياساتها، التي تحددها جهات التمويل، بحيث صار الإعلام يضخ في مجمله إعلانات تحمل الترويج لوجهات نظر الممولين، دون أية علاقة بالوعي، وبأدنى علاقة مع الحقيقة، والجمهور يبتلع هذا اللغو اللامع المنمق تحت دعاوى معرفة ومتابعة ما يحصل، بينما يلهث وراء مسلسلات محلية أو مدبلجة تحمل قيما استهلاكية غالبا، وبرامج مسابقات، ولقاءات مع أناس يقدمهم الإعلام بوصفهم النجوم، فيحصل تصنيف البشر إلى من يجلسون أمام الكاميرا، ومن يخدمون الآلة الجهنمية لتغييب الوعي، ومن يستهلكون هذه الخدمات بوصفهم متفرجين!!
المفارقة المفاجئة هي أن من يعي هذا الدور للإعلام يعود فيعيد إنتاج ما يقدمه هؤلاء النجوم عبر منبره الإعلامي الحر المستقل على وسائط وشبكات التواصل الاجتماعي!!
والمفاجأة الأكبر هي أن أجهزة الإعلام على مختلف توجهات مموليها تكرس فكرة النجوم، والمتفرجين، وتكرس نفس سرديات المبالغة في نفخ وتلميع أهمية وغلبة السلطة، ويحصل هذا بالمديح الكاذب، كما يحصل بالشكوى والنحيب!! دون كلمة واحدة حول كيف يمكن للناس مواجهة الظلم، والظالمين؟؟ أو تجارب شعوب الأرض في هذا المضمار، أو كيف يتواصل الناس، ليستعيدوا نبض الحياة فيهم، ويتعاونوا لتحسين ظروف عيشهم، وتبادل الدعم اليومي في مواجهة حياة صعبة!! فضلا عن تسليط الأضواء على خبرات ومبادرات كثيرة محلية ودولية في التعليم بروح مختلف، وفي تسيير الحياة اليومية كلها بشكل أنجح.
في مقابل هذا البؤس المزمن تنطلق مبادرات عدة يلعب فيها الناس أدوار البطولة عبر حلقات نقاشية، وأفكار مبتكرة للتثقيف، وحملات تشجيع على القراءة، وأشكال من الإنتاج المرئي والمسموع، ومحاولات تجمع الناس بأشكال، ولأغراض متنوعة، في أماكن عدة.
في مصر سرديات يومية رائعة تتحدى مركزية سردية الاستبداد والقهر التي يروج لها الإعلام كله، بينما أخرون يتحركون حركة انسيابية سلسة تغطي مساحات كثيرة، دون أن يعبأ بهم أحد من الأغلبية المنشغلة بألعاب الفرجة، والحسرة، ومصمصة الشفاه.
للوعي عبر الجسد وتحريكه تنعقد حلقات وورش تدريبية تعيد استكشاف علاقتنا بأجسادنا، وتأثير المشاعر على الحركة، وتأثير الحركة على المشاعر، تحرير الجسد من وضعية المتفرج الكسول، ومن أن يكون هو ذاته مجرد موضوع للفرجة، واستكشاف وعي الجسد، والوعي عبر الجسد، وأنشطة أخرى تربط بين الوعي الحركي هذا، وبين الوعي الروحي التأملي الذي تنتشر حلقاته أيضا بأشكال متنوعة، ويقبل عليها جمهور متزايد يعيد النظر في الفقر الروحي المنتشر، وفي الإحباط، والخوف، والإحساس بالعجز والكمد في التبعية للمعرفة المسمومة التي تروجها تسلطيات التخلف والقهر جميعها!!
يتلاقى الناس وعبر الممارسة والجماعية تولد معرفة جديدة وحقيقية ومستنيرة، وعبر وسائط اللقاء المباشر وأشكاله تستيقظ في الناس الحياة التي قتلتها أو شوهتها برمجة التسلط من المهد إلى اللحد، في المدرسة والجامعة، وفي المسجد والكنيسة، وفي السوق، وعلاقات العمل الظالمة، وفي التبعية للاستعمار المعرفي، والإعلام الجماهيري.
يبقى أن أشكال التحرر هذه ما تزال مجهولة للأغلبية، ومحدودة -رغم انتشارها- وكأنها بعيدة، رغم أنها متاحة، ومفتوحة، ومجانية في كثير من الأحيان!!
وما يزال أغلب الناس يعتقدون في أن وسائل السيطرة القديمة في أجهزة الدولة وملحقاتها هي التي تملك وحدها تغيير الوعي، ونشر الأفكار، وتوليد أنماط سلوك مختلفة، في لحظة تشمل فيها العالم كله ثورات في تداول المعارف والتجارب والخبرات، وفي التقارب الإنساني على أساس الاحترام المتبادل، وحرية الاختيار!!
مضخات التخلف ما تزال تصب ما في جعبتها، ونقاط النور أيضا تنتشر، ولكن العيون التي فيها رمد تغفل رؤية الأفق مستسلمة للظلام.
واقرأ أيضًا:
التغيير والوعي/ التغيير والبديل