التغيير والوعي2
أسمع وأقرأ كلاما يدهشني عما أسميه أنا: تعثر الربيع العربي، بينما يروق لآخرين أن يسمونه فشلا، بل يراه البعض مؤامرة ضمن ما يسمى "حروب الجيل الرابع"، أو "الفوضى الخلاقة"، أو بقية المصطلحات المتداولة للتقليل من شأن ما شهدته بلداننا، ومقالي اليوم أحفر فيه وراء الموضوع.
أتصور بداية أنه يفيدنا أن نرى ونعترف أن المكون الإيجابي (الثوري) التجديدي في حركة أهلنا وناسنا بدول الربيع يبدو بسيطا إذا ما قورن بالجانب المحافظ (العدمي) القديم، بألفاظ أخرى يبدو ما حدث في تونس ومصر واليمن وسورية وليبيا أقرب إلى الانهيار، منه إلى الهدم النشط الواعي، لأنظمة منتهية الصلاحية، فضلا عن بناء أخرى بديلة!!
التحركات الشعبية كانت تؤشر على هذا الانهيار بعد انتهاء العمر الافتراضي للنخب المتصدرة، والأساليب المسيطرة، والعادات والتقاليد الاجتماعية، والثقافة السائدة، أي أننا نعيش نظام حياة متعفن متآكل متداعي، جثة تتحلل منذ عقود، فشلت كل محاولات إنقاذها، وكل مبادرات ترميمها.
من قبيل الخلط، والاندفاع والعجلة، خلطنا بين الانهيار والهدم، ولم ير أحدا أن هذه التحركات لم تتسلح بعد بالجديد، وبالتالي أن انهيار ما انتهى عمره الافتراضي لا يعني تلقائيا قيام أنظمة بديلة في الاقتصاد، كما في العلاقات، وفي الحكم والسياسة كما في حرية التعبير والاعتقاد، ومكافحة الفساد.
المدهش أكثر أن يجتاح النفوس الآن يأس مستبد شديد، وإحباط عاتي، وتتطاير اتهامات شتى سواءا لقوى تحمل نفس الرؤى والأساليب القديمة، المنهارة، مع كل ما انتهت صلاحيته، مثل القوى الإسلامية، أو لأفراد من خلفيات شتى يرون الخلل فيما هو قديم، وينتظرون سقوطه، وحين يتأخر السقوط يحبطون!!
فهل يسقط القديم وحده، أو بمجرد الانتظار، والحسرة؟؟
الاتهامات تطال جموع الناس بوصفهم، أو بعضهم ساهم في استعادة السلطة القديمة ببطشها وفسادها، ويغض الطرف عن أن من ظهروا أمام الأضواء – حتى الآن- لم يطرحوا صيغة جديدة للعلاقة بين السلطة والناس، وأنهم تخارسوا عن مصارحة الناس بأن مقاليد الثورة والسلطة الحقيقية ليست في البرلمان ولا كرسي الرئيس، ولكن في شبكات التسيير والتحكم، وإن ملفات مثل الأمن والوقود وإعادة توزيع الثروة تحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من الإبقاء على نفس آليات الدولة من شرطة، ووزارات يعشش فيها الفساد، ولا سبيل إلى تطهيره دون شبكات شعبية بديلة!! لم يتقدم أحد لقول هذا، ولا بناءه!!!
القوى الإسلامية فشلت في فهم شفرة الربيع، وظلت تردد أنها هي الحل، ولم تسمح لنفسها أن ترى أين هي بالضبط جزء من المرض، وأين هي بالضبط متورطة في تكريس القديم من تخلف، وفساد، واستبداد!!
والآخرون من القوى السياسية والأيدلوجية استسلموا للعب دور المعارضة لقوى الإسلام السياسي التي جاءت بها جماهير تحسبها البديل!!
بينما الجماهير استسلمت لما قيل لها، وما سكب من وعود، ساقتها كل الأطراف سذاجة أو كذبا، ولما تكشفت الأكاذيب تباعا، استسلمت للخداع، وعادت لأحضان نفس القهر والاستبداد، دون أن تلتف حول بدايات جديدة متناثرة لبناء الجديد بعيدا عن ديناصورات الماضي، وسماسرة الوعود!!
الصورة حاليا مرتبكة في تونس، وأكثر ارتباكا ودموية في مصر، بينما في ليبيا يلعب الناتو مباشرة في تغذية الصراعات لتظل له الهيمنة على البترول والناس، وفي اليمن انقلبت الأمور رأسا على عقب، وتحول الأمر إلى حرب إقليمية، بينما في سورية يستمر النزيف دون حسم.
البديل المفتقد ليس فصيلا سياسيا، ولا تنظيما قديما ينتظر دوره في مشاركة السلطة، والإبقاء على نفس آليات اللعب السياسي، والتقسيمات الفئوية، والأيدلوجية، والطائفية، ونفس النخب، ونفس القيادات، ونفس الأفكار، ونفس الكهنة، ونفس الأوهام حول خبراء السياسة والفكر، العملاء لمصالحهم الشخصية، ولجهات داخلية وخارجية، وكل التراكيب القديمة نفسها، مع تغييرات طفيفة في الوجوه!!
لم يقدم أحد ممن يتحدثون عن التغيير سوى تضحيات من ماتوا في سبيله، والكثير من الفرجة، ولا حديث حقيقي عن نظام حياة جديد، ولا بناء مجتمعات، وشبكات وعي، وتفكير، وبناء علاقات، وممارسات جديدة تجعل القديمة باطلا!!
لم ينطرح في أي من بلدان الربيع بديلا حقيقيا للنظام القائم، ولا أقصد فقط نظام الحكم، ولكن أنظمة الحياة كلها، كما حاولت أن أشرح.
هناك نقاط متناثرة هنا، وهناك تتلمس طريقها نحو الجديد بعيدا عن معمعة أراضي السياسة المحروقة، وبعيدا عن ثرثرات السادة الخبراء الجهابذة، ووعود السياسيين الكاذبة، ولعلي أحفر في هذا أكثر بمقال قادم.
واقرأ أيضًا:
الجماهير والتغيير 3 / شهر الروح2