كنت قد قضيت يوما شاقا ومبهرا في صعود سور الصين العظيم والوصول إلى أعلى نقطة فيه ورجعت مجهدا للغاية، ومع ذلك كان عليّ أن أزور "المدينة المحرمة" (Forbidden City) في اليوم التالي، وكنت على وشك التكاسل والخلود إلى الراحة، ولكن الفضول دفعني لأن أقوم من سريري مبكرا لأذهب وأرى تلك المدينة، ولماذا وكيف حرمت على عامة الناس قرونا طويلة، ولم يدخلوها إلا في القرن العشرين حين انتهى الحكم الإمبراطوري وتحولت الصين إلى الحكم الجمهوري.
وكان يدور في ذهني فكرة تحريم السلطة على عموم الشعب واستئثار فئة معينة بها تعتبر نفسها جديرة بالسيادة والإستعلاء والتحكم، وتعتبر من دونها عبيدا لا يجوز لهم مجرد التفكير أو التطلع للسلطة (لا يجوز للمدني أن يصبح رئيسا، ولا يجوز لابن عامل القمامة أن يصبح قاضيا)، وهذا يصنع مدنا محرمة كثيرة ما زالت قابعة في عالمنا العربي بعد أن تحولت في كثير من دول العالم إلى مزارات سياحية للعبرة التاريخية.
المدينة المحرمة في وسط بكين لا يفصلها عن الميدان الأحمر (ميدان الحرية) غير شارع، من يستطع أن يعبر هذا الشارع يمكنه دخول المدينة المحرمة، ولكن للأسف هذا الشارع ملئ بالسيارات المصفحة والدبابات، وحين حاول الطلاب الصينيون مجرد الوقوف في الميدان الأحمر ليرفعوا أصواتهم على أحفاد الإمبراطور القابعين في المدينة المحرمة دهستهم الدبابات حتى لا يفكروا في ذلك مرة أخرى.
والمدينة المحرمة بنيت منذ حوالي 600 سنة ليقطنها الإمبراطور الصيني وأسرته وحاشيته، وهي محرمة على عامة الناس مهما كانت مكانتهم وقيمتهم، ومساحتها 72 هكتار، وشارك في بنائها مليون شخص لمدة 14 سنة (نفس فكرة بناء الهرم الذي استغرق 20 عاما وتم تسخير غالبية الشعب لحمل أحجاره ليدفن فيه الملك)، وهي عبارة عن دوائر متتالية الدائرة الخارجية للحراس الأشداء والدائرة التي تليها للموظفين والسكرتارية، والدائرة التي تليها لأفراد العائلة الإمبراطورية من الدرجة الثالثة والرابعة، أما الدائرة المركزية فهي للإمبراطور وحريمه وأبنائه، وكل دائرة مدخلها بوابة لا يتم تجاوزها مهما كانت الظروف، ومن يتجاوزها يقتل فورا. تذكرت وأنا أعبر بوابات المدينة نفس الإستحكامات التي كان يصنعها حوله كل من شاه إيران وشاوشيسكو وحسني مبارك والقذافي وبن علي وصدام حسين وكيف تهاوت تلك الاستحكامات وتحولت في لحظة الغضب الشعبي إلى سراب.
وتوجد تماثيل التنين وهي ترمز إلى القوة والرهبة، حيث يراد بث الرعب في قلوب الرعية والأعداء على حد سواء، كما توجد سلحفاة برأس تنين لتجمع بين القوة والرهبة (رأس التنين) وبين العمر الطويل (جسد السلحفاة)، فالإمبراطور – أي امبراطور وأي صاحب سلطة – يريد أن يعيش للأبد ويحكم للأبد.
ورغم كل هذه الإستحكامات السلطوية، يظل القابع في وسط المدينة المحرمة خائف على السلطة وعلى حياته لذلك صممت أرضية تلك المدينة من 15 طبقة من البازلت السميك حتى تمنع أي احتمال لوصول الأعداء للإمبراطور وأسرته وحاشيته عن طريق نفق يحفر في الأرض.
ويمنع زراعة الشجر في أرض المدينة المحرمة لأن الشجر يتغذى من الأرض، والأرض ملكية خاصة للإمبراطور يضن بها حتى على الشجر. وتكمن قوة الإمبراطورية الصينية القديمة في أربعة عناصر هي: النار (يرمز لها باللون الأحمر)، والأرض (يرمز لها باللون الأصفر)، والخشب والذهب.
والتنين هو رمز للأسرة الحاكمة لا يتقلده أحد غيرها واللون الأصفر خاص بالأسرة الحاكمة، ولو شوهد أحد يقتني تمثالا للتنين أو يلبس لونا أصف يقتل فورا لأن هذا معناه أنه يفكر في التطاول على أسياده ويحلمبتقلد السلطة المحرمة على العوام والأوباش.
واقرأ أيضًا:
معجزة الصين .. عبقرية إدارة البشر / الحياة الممتلئة