قبل ثلاثين عاما كان تعداد سكان بكين عشرة ملايين (اليوم ثمانية وعشرون مليونا), وكان أعلى مبنى فيها عبارة عن أربعة طوابق, ولم يكن ثمة كيان ذات بال اسمه الصين, ولكن ذكرى لدولة قديمة وحضارة عتيقة لم يتبق منها إلا بعض الآثار. وكانت نقطة الضعف المخيفة في المجتمع الصيني هي ذلك التكاثر المخيف في أعداد البشر (مليار وثلاثمائة ألف نسمة) مما جعل الفقر يأكلهم وبكين مدينة عمرها ثلاثة آلاف سنة, وهي عاصمة الصين منذ ألف عام, وعلى الرغم من كثرة عدد سكانها إلا أنها نظيفة جدا وجميلة وهادئة. ثم حدث التحول منذ ثلاثين عاما فقط، تغيرت العقلية، تغيرت برامج التفكير، وبدأت المعجزة، معجزة إدارة هذه الأعداد الفلكية من البشر وتحويله من عبء بشري إلى منجم بشري عظيم.
كان الشعار بسيطا: أن يصبح كل شخص منتجا، لا وقت للتنظير، لا وقت للشعارات، لا وقت للخلافات أو الصراعات سواء كانت دينية أو سياسية أو مذهبية أو فكرية، العمل المنتج هو القيمة الوحيدة في المجتمع، النجاح هو الهدف. خلال ثلاثين عاما أصبحت الصين أكبر قوة اقتصادية وبشرية في العالم.
من هنا بدأت منظومات العمل تتشكل، الورش في كل مكان، خاصة في البيوت، يجتمع أفراد الأسرة في ورشتهم المنزلية, كل منهم يصنع شيئا ثم يتم تجميع ما صنعوا في ورش أكبر أو مصانع لكي يكتمل المنتج. بدأوا بالتقليد للماركات والمنتجات العالمية ثم تحولوا إلى الابتكار. هم يصنعون كل شئ لكل البشر, يعرفون احتياجات كل المجتمعات, ويبيعون منتجاتهم في كل شبر على الأرض, إذن فهم ليسوا فقط صنّاعا و"صنايعية" مهرة, وإنما تجارا أكثر مهارة و"شطاره", تلمح ذلك في قدرتهم الفائقة على التفاوض والفصال.
منعت الحكومة عنهم الفيسبوك واليوتيوب وكل ما يمكن أن يعطلهم عن العمل، لا وقت للثرثرة التافهة أو التسلية الفارغة، الناس هنا يبدون في صحة جيدة ورشاقة واضحة ويتحركون بخفة ويتناولون طعاما صحيا، لا يتكلمون إلا فيما يخص العمل والإنتاج والثروة.... اخترقوا أسواق العالم بمنتجاتهم الرخيصة والمتنوعة, واستقطبوا أموال العالم في مصانعهم واستثماراتهم... حالة الأمان والإستقرار شجعت كل المستثمرين أن ينشئوا مصانعهم ومؤسساتهم هناك.... ابتعدوا عن التورط في الصراعات السياسية والعسكرية سواء محليا أو دوليا, ولم يستدرجوا لسباقات التسلح العبثية أو استعراضات القوة العسكرية.
والروحانية في الصين تقوم على فكرة القوة الضخمة والخارقة التي يرمز لها بالتنين, وهي نتاج تآزر أربعة عناصر: الأرض والذهب والنار والخشب, ويلاحظ هنا غياب السماء أو مايتصل بها, وربما يفسر هذا ارتباط حضارة الصين بالأرض أكثر من ارتباطها بالسماء, وهذا لا ينفي تماما تطلعهم إلى السماء في مراحل من تاريخهم وهذا يتمثل في معابد دينية كثيرة, وفي الديانة البوذية التي يدين بها غالبية السكان, وإن كانت الأجيال الجديدة لا تأخذ مسألة الأديان على محمل الجد. وكان لابد من السيطرة على التزايد السكاني الرهيب بقرارات سلطوية حاسمة, فكان القرار الحكومي: طفل واحد لكل أسرة, فليس مسموحا للأسرة بإنجاب أكثر من طفل, ومن ينجب أكثر يدفع غرامة مائة ألف جنيه عن كل طفل.
والمرأة في الصين عزيزة جدا وذلك يرجع لقلة عدد النساء بالنسبة للرجال, ولهذا تشترط الفتاة أن يكون الزوج غنيا ولديه شقة وسيارة. والشقق السكنية غالية جدا, إذ يبلغ ثمن الشقة البسيطة في بكين حوالي مليون دولار. والزواج لديهم يتأخر لسن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين. وقد تصاحب الفتاة أربعة أو خمسة شباب لأن العرض عليها كبير, وقد يجد الشباب أنفسهم مضطرين لمصادقة فتيات من خارج الصين.
وغالبية الصينيين لا يعرفون لغة أخرى غير لغتهم, والسبب في ذلك أنهم لا يتعاملون مع أجانب كثيرين في بلدهم (كل شخص أمريكي يزور الصيني يقابله عشرة آلاف صيني يزورون أمريكا أو يعملون فيها), ولا يدرسون اللغة الإنجليزية أو اللغات الأخرى في المدارس ولهذا يجد الزائر صعوبات في التواصل مع الكثيرين منهم. وعلى الرغم من وجود 56 أقلية في الصين إلا أنه لايوجد صراعات طائفية أو مذهبية, وقد قام ماوتسي تونج بتأسيس النظام الجمهوري في الصين عام 1949, ولهذا يقدسونه ويضعونه في مصاف الآلهة, ومن وقتها رفعوا شعار: "وطن واحد, زوج واحد, زوجة واحدة, طفل واحد, هدف واحد هو العمل".
وفي بكين حوالي ستة ونصف مليون سيارة, ولو ساروا كلهم في المدينة لتعطل المرور تماما, ولهذا يحظر على أرقام معينة الحركة في الشوارع في أيام محددة, وإذا خالف صاحبها ذلك توقع عليه غرامة, وتكرر الغرامة كل ساعتين إذا استمرت السيارة المخالفة في الشارع, وهناك نظام كاميرات المراقبة في كل مكان يلتقط أي مخالفة ويسجلها. وليس من السهل الحصول على رخصة سيارة إذ تصدر الحكومة فقط عشرين ألف رخصة في بكين كل عام, وعلى المواطن أن ينتظر دوره للحصول على الرخصة, وهم يفعلون هذا للسيطرة على حركة المرور في الشوارع, وعلى أعداد القادمين إلى العاصمة حتى لا تخرج عن السيطرة, وقد نجحوا فعلا في ذلك, فلا ترى اذدحاما شديدا أو اختناقا مروريا كما تراه في القاهرة مثلا.
لم يعيشوا على التغني بماضي أسلافهم التليد، ولم يكتفوا بالترويج لآثارهم القديمة, بل صنعوا حاضرا مبهرا، حقا لقد نجح الصينيون في بناء بلدهم وتحقيق معجزة بشرية في ثلاثين عاما على الرغم من كثرة أعدادهم وضعف مواردهم، إنها عبقرية إدارة البشر.
واقرأ أيضًا:
المعنى النفسي لليلة القدر / المدينة المحرمة Forbidden City