الكلام في الطب النفسي...... بين التحليلي والمعرفي السلوكي والثقافة الدينية
العلاج في معظم الاختصاصات الطبية من عقاقير وجراحة ومعالجة إشعاعية وفي هذه الأيام ما نسميه علاجات مستهدفة Targeted Therapies خاصة بالأمراض الخبيثة يخضع لدراسات علمية مكثفة وطويلة المدى وباهظة التكاليف قبل أن يتم عرضها على المؤسسات الوطنية والإقليمية للموافقة عليها. توافق هذه المؤسسات عليها وتصدر تصريح استعمالها في الممارسة السريرية وبعدها تواجه عقبة أخرى من الحكومات التي تتحمل التكاليف المادية لاستعمال العلاج (أو شركات التامين) وتبدأ الأخيرة بالمراوغة على أمل إنفاذ فترة احتكار شركة ما للعقار لعدة سنوات وبعدها يتم صنعه من قبل شركات أخرى ويهبط سعره. خلال كل هذه المدة تتعرض الحكومات وشركات التأمين لمطالب الجماهير بضرورة التعجيل بإصدار الموافقة وتمويل العلاج.
قد يظن البعض أن هذا السيناريو ينطبق فقط على العقاقير وهذا غير صحيح فحتى العمليات الجراحية تخضع لهذه القيود والعقبات وخير مثال على ذلك الجدال الحاصل حول استعمال الجراحة للسيطرة على السمنة المفرطة. قبل عدة أشهر أصدر الاتحاد الأوربي توصية باستعمال الجراحة للسيطرة على السمنة المفرطة واضعاً حداً أدنى لتعريف السمنة المفرطة أقل بكثير من الذي تعتمده العديد من الدول الأوربية وبالتالي لم يؤدي إلا إلى إثارة النقمة والغضب على بيروقراطية الاتحاد الأوربي.
تستهدف التجارب العلمية لأي علاج ما يلي:
1 - فعالية العلاج.
2 - أعراضه الجانبية.
إذا كان العلاج أكثر فعالية وأعراضه الجانبية أقل من غيره فعندها سيرى النور. دون ذلك يدخل في المجلدات الطبية ولا يستعمله أحد إلا في البلدان التي تفتقر إلى الضوابط والإرشادات في الممارسة الطبية وضبط الميزانية الصحية للوطن.
يستثنى من كل ذلك أعلاه إلى حد ما نسميه العلاج الكلامي في الطب النفسي. قد يتحدث البعض عن فعالية العلاج ولكن من الصعب أن ترى بحثاً يتطرق إلى الأعراض الجانبية.
أنواع العلاج الكلامي:
يشكو البعض من كثرة العقاقير المستعملة في الطب النفسي ولكن عددها لا يقارن بعدد العلاجات الكلامية. تقرأ بحثاً علمياً عن علاج أحد الاضطرابات وتقع عيناك على مصطلح جديد لعلاج كلامي. تتفحص البحث العلمي المنشور ونادراً ما ترى وصفاً دقيقا لعملية العلاج في البحث نفسه أو المصادر.
من الأفضل وضع جميع العلاجات الكلامية على بعد واحد من نهايتين. النهاية الأولي: هي لعلاج التحليل النفسي Psychoanalytical Psychotherapy الذي صممه "سيمغوند فرويد" وتلاميذه، وفي النهاية الأخرى: ما نسميه العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavioural Therapy وما بين النهايتين عدد هائل من العلاجات الكلامية يصحب إحصائها (المخطط رقم 1) منها:
٠ المعرفي – التحليلي.
٠ الوجودي.
٠ الإنساني.
٠ الأنثوي Feminist
٠ البناء الشخصي Personal Construct .
٠ العلاج الفني Art Therapy .
٠ التحليل الجمعي Group Analysis .
٠ وغيرها كثير.
التحليل النفسي كعملية علاجية بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة منذ بداية الألفية الثالثة وبدأ العلاج المعرفي السلوكي بالانتشار. في الوقت الذي لا يتجاوز عدد الممارسين للتحليل النفسي بضعة مئات في بلد مثل المملكة المتحدة وتعداد سكانها أكثر من 65 مليون نسمة ترى عدد الممارسين للعلاج المعرفي السلوكي عدة آلاف. معدل أعمار المحللين النفسيين يقع في العقد السابع من العمر على عكس الممارسين للعلاج المعرفي السلوكي فهم في العقد الرابع من العمر. تكاليف العلاج التحليلي أضعاف المعرفي السلوكي ويتطلب ما لا يقل عن 3 جلسات أسبوعياً لعدة سنوات مقابل 16 جلسة فقط أو أقل للأخير. العلاج التحليلي ينتشر جغرافياً في المناطق الغنية على عكس العلاج المعرفي السلوكي.
اكتساب المهارات للتحليل النفسي يستغرق عدة سنوات ويخضع الطالب لعملية تحليل نفسية. أما اكتساب المهارات في العلاج المعرفي السلوكي فيتم من خلال الانخراط في دبلوم عالي في أحد الجامعات أو المعاهد النفسية من الحاصلين على شهادة تمريض (الأكثرية) أو علم نفس أو اجتماع أو طب، ولا يتجاوز الأربعين يوماً على مدى عشرة أشهر. ولكن ليس كل من يمارس التحليل النفسي أو المعرفي السلوكي يمر عبر مؤسسات تعليمية وهذا ينطبق كذلك على الكثير من الممارسين لأنواع العلاج الكلامي الأخرى.
التحليل النفسي يتفحص المريض على المدى البعيد في عملية كلامية لا تخلو من الغموض بينما يستهدف العلاج المعرفي السلوكي الفحص المقطعي العرضي لتفكير الإنسان ومساعدته في استبدال الأفكار المدمرة بأفكار إيجابية ومن هنا يأتي الاستفسار:
- هل استبدال الأفكار السلبية بأخرى إيجابية في حاجة إلى كلام مع معالج نفسي؟
بدأت منذ مدة البرامج الإلكترونية المعرفية السلوكية بالانتشار وكذلك الكتب التي يتم توزيعها على المرضى لعلاج أنفسهم بأنفسهم وخاصة في مجال القلق والاكتئاب الطفيف والحصار المعرفي. فإذا ما فشل المريض في علاج نفسه بنفسه يعود ثانية ليطرق أبواب المراكز الصحية.
ولكن أهداف العلاج النفسي في الطب النفسي لا تختلف سواءً كانت العملية تحليلية أو معرفية سلوكية أو غيرها (الصورة الثانية) وهي:
1 - أن يفهم الإنسان نفسه بصورة أفضل .
2 - تخفيف الألم أو الارتباك العاطفي.
3 - مساعدة الفرد في تفهم القضايا النفسية التي تواجهه بين الحين والآخر.
4 - الحصول على آليات دفاع نفسية شعورية أو غير شعورية لمواجهة الأزمات.
5 - تفهم الماضي وتخطيط أفضل للمستقبل.
أما العملية العلاجية الكلامية فهي تكاد تكون واحدة وتشمل ما يلي:
1 - تكوين تحالف بين المعالج والمريض يسمى تحالف علاجي Therapeutic Alliance
2 - الدخول في العملية العلاجية.
3 - مرحلة نهاية العلاج لتقييم المكتسبات وتوديع العملية العلاجية.
الخطوط العريضة للعملية وأهداف العلاج الكلامي لا تختلف بين الأصناف المتعددة التي يتم استعمالها وبما أن العملية تحدث بين المعالج ومستخدم الخدمات (أو المريض) ضمن أربعة جدران فلا أحد يستطيع مراقبة وتقييم العلاج الذي يتم تقديمه. الغالبية العظمى من المراجعين لا يملك العلم والمعرفة الكافية لتقييم العلاج الذي يتم تقديمه إن كان من الصنف الذي يدعيه المعالج ولا أحد يستطيع تدقيق ما يقدمه المعالج ويدونه في سجلاته. هذا عكس من يحدث في عملية العلاج بالعقاقير فهي خاضعة للمراقبة وكل مريض له القابلية والقدرة على الاستفسار عن العقاقير وأصنافها وأعراضها الجانبية من الصيدلي أو عبر عالم الفضاء.
هذا الارتباك في صنف العملية العلاجية يفسر أحياناً استعمال مصطلح العلاج الشامل Holistic Therapy عندما يستفسر أعضاء الفريق الطبي النفسي من المعالج عن نوعية العلاج الذي يقدمه للمريض. هذا الاستعمال المزاجي للمصطلح يعني بأن المعالج ربما يستعمل خليطاً من المعرفي السلوكي أو علاج كلامي يستهدف الشخص بحد ذاته شخصيا Interpersonal Therapy ولكن هذا النوع من العلاج بحد ذاته والمصطلح نفسه لا يقع ضمن المدارس النفسية العلاجية المتداولة والمصنفة علمياً ولكن ربما المعالج الذي يستخدم هذا المصطلح أكثر صدقاً من الذي يدعي استعمال صنف واحد لا غير في العلاج النفسي وخاصة العلاج المعرفي السلوكي.
العلاج المعرفي السلوكي أصبح مطلباً جماهيرياً في العديد من الدولة الغربية لكثرة البحوث الميدانية المنشورة حول فعاليته. بما أن هذا العلاج لا علاقة له بشركات الأدوية ولا يحتوي على مواد كيمائية تتلاعب بالناقلات العصبية للدماغ فهو أكثر تقبلاً من الجمهور. دفعت الجماهير حكوماتها إلى توفير العلاج المعرفي السلوكي أو ما يسمى بالعلاج المعرفي السلوكي في مراكز الخدمات الطبية الأولية Primary Care Services أو ما يسمى أحياناً الطب العام العائلي.
هناك وجهة نظر أخرى من قبل المجموعات الجماهيرية ومن يساندها في الدولة حول أهمية توفير العلاج الكلامي وهي أن مثل هذا العلاج يساعد الإنسان الذي يعاني من أزمة نفسية على تجاوزها بسرعة والاستمرار بالعمل والحفاظ على كيانه وبالتالي منع انحداره إلى مرحلة التفسخ الشخصي والمهني مع تجاوزه عتبة الاضطرابات النفسية الجسيمة. هذا الرأي يصعب إسناده ببحوث علمية ويستند إلى استعمال نموذج متكامل للصحة النفسية يشمل الاجتماعي والنفسي والسلوكي والطبي.
الطبيب العام (أو الممرضة) الذي يكشف على المريض الذي يشكو على سبيل المثال من أعراض اكتئابيه أو قلق أو حصاريه (وسواسية) أمامه 3 اختيارات:
1 - علاج المريض بالعقاقير لأن حالة المريض تستوجب ذلك أو هذا ما يطلبه المريض.
2 - تحويل المريض إلى الخدمات الصحية الثانوية Secondary Care Services لأن حالة المريض تتجاوز حدود سلامته وسلامة الآخرين مع العلاج في المركز الطبي الأولي. يضاف إلى ذلك لا أحد يستطيع تقديم علاج كلامي فوري ولا مفر من الانتظار ولا أحد يمكن أن يتوقع سرعة نتائج العلاج الكلامي.
3 - تحويل المريض إلى المعالج النفسي المرتبط بالمركز الصحي.
الاختيار الثالث لا يتم إلا في وجود أعراض طبية نفسية ضئيلة العدد أو طفيفة لم تؤثر بشكل ملحوظ على فعالية الإنسان الوظيفية في المجتمع أو العائلة أو العمل. يخضع الطبيب العام أحياناً إلى ضغط المريض وعائلته لتقديم العلاج الكلامي أولاً أو بدلاً من العقار رغم عدم اقتناعه بالفكرة وقد يحالفه الحظ أحياناً بإقناع المريض باستعمال العقار مع العلاج الكلامي. رغم أن المريض قد يدخل عملية العلاج الكلامي ولكن ذلك لا يمنع الكثير من المعالجين النفسيين توقيف العملية وإرساله صوب الخدمات الطبية الثانوية للعلاج حفاظاً على سلامته وسلامة الآخرين.
ارتباك الأدلة في ممارسة العلاج النفسي
الممارسة الطبية تستند هذه الأيام على وجود الأدلة العلمية على فعاليتها. يستعمل مصطلح الممارسة المبنية على الدليل (أو المسندة) Evidence-Based Practice لوصف العمل المهني. ترتبط هذه الممارسة بمصطلح علمي آخر وهو نجاعة العلاج Efficacy ويعني ذلك بأن الدليل تم الحصول عليه من خلال دراسات تتميز بدقة التصميم والتقليل من أي خطر يهدد المصدوقية Validity الداخلية للبحث. الدليل الأفضل هو المشتق من تجارب علمية عشوائية العينة ومزدوجة التعمية Double-Blind Randomised Trials هذا الدليل لا بد منه لكي يدخل عقار طبي نفسي الممارسة المهنية.
أما العلاج الكلامي فلا وجود لازدواجية التعمية ولا يستطيع أحد القيام بتجربة أو دراسة علمية من هذا النوع. أما العينة فهي عشوائية ولكن حالها حال التجارب العلمية الأخرى تعتمد على معايير استبعادية Exclusion Criteria ومعايير اشتماليه Inclusion Criteria وهذا يعني أن العينة تكون انتقائية وهذا بالطبع احتمال حدوثه في تجارب ودراسات العلاج الكلامي أكثر بكثير من دارسات العقاقير الطبية النفسية. الممارسة العملية للعلاج الكلامي تستند إلى فعالية العلاج ومشتقة من الممارسة العملية ومعظم النشرات يتم تعميمها ولكن الثمن الذي تدفعه مثل هذه الدارسات هو المخاطر الكبيرة للمصدوقية الداخلية.
يمكن الاستنتاج عند هذه النقطة بأن العلاج بالعقاقير في الطب النفسي ممارسة مبنية على دليل أم العلاج الكلامي فهو أقرب إلى دليل مبني على الممارسة.
تعتمد دراسات العلاج المعرفي السلوكي على مقارنة مجموعة العلاج بمجموعة أخرى تنتظر العلاج أو تستلم علاج كلامي آخر أو تستلم عقار مموه أو غفل Placebo أو عقار فعال. لا يمكن أي من هذه الدراسات أن تكون ازدواجية التعمية. رغم ذلك فإن عدد الدراسات التي تسند فعالية العلاج المعرفي السلوكي عديدة في الاكتئاب، القلق (بدون رهاب الساحة)، الرهاب الاجتماعي، واضطراب كرب ما بعد الصدمة. رغم أن هناك العديد من الدراسات التي تساند فعالية العلاج المعرفي السلوكي في اضطرابات أخرى ولكن حجم هذه الفعالية دون الاضطرابات الأخيرة.
العلاج الشمولي Holistic Therapies
الكلام بين المعالج ومن يراجعه يحتاج إلى تحالف علاجي Therapeutic Alliance لنجاحه مهما كان نوع العلاج المستعمل وهذا لا يصعب تطبيقه حتى على العلاج بالعقاقير. بعد ذلك تبدأ رحلة العلاج ويمكن القول بأن صنف العلاج الكلامي هو المركبة التي ستنقل المراجع إلى مكان آخر في حياته النفسية. هذه الرحلة تحتاج إلى تحالف وذلك أهم بكثير من المركبة نفسها في معظم الحالات.
التحالف بين المراجع والمعالج هي علاقة إنسان بالغ بإنسان بالغ آخر تستند على الاحترام المتبادل. هذه العلاقة غير العلاقة الأبوية Paternalistic Relationship التي تحدث أحياناً بين المعالج والمراجع لأسباب عدة تتعلق بالمراجع والمعالج على حد سواء. متى ما تحولت العلاقة من بالغة إلى أبوية توقفت الرحلة وتعطلت المركبة.
كذلك لا بد من الإشارة إلى صفة من صفات العلاج النفسي في غاية الأهمية وهي الاستماع. الإنسان بحاجة إلى أن يتكلم وإلى من يستمع إليه وليس من السهل أن يعثر الفرد على هذا الإسان الذي يستمع إليه لفترة تقارب الساعة وبدون انقطاع حتى وإن كان زوجه. من هنا نفهم لماذا يستلم المعالج أجره من المراجع نفسه أو من الدولة.
ولكن هناك نوعا آخر من العلاج الذي نسميه الشمولي Holistic الذي ليس من السهل تعريفه ويقع ضمن الطب البديل Alternative Medicine أو التقليدي Traditional Medicine أو المكمل Complementary. هذه الممارسات تركز على القيم الإنسانية والثقافية وتتحدث عن الشفاء Healing أكثر من العلاج وتركز على العلاقة بين العقل والجسد والاحتياجات الروحية للإنسان. تحتوي هذه المجموعة على التنويم المغناطيسي والاسترخاء والعلاج بالروائح والأعشاب وغيرها. العلاقة العلاجية بين المعالج والمراجع تختلف عما نشاهده في العلاج الكلامي فهي أقرب إلى عملية تثقيفية يستمع فيها المراجع إلى المعالج أكثر من استماع المعالج لمراجعه في العلاج النفسي. أما إطار العلاقة بين المراجع والمعالج فهي علاقة أبوية بين المرشد ومستشيره.
اللجوء إلى المعتقدات الدينية واستعمالها في العلاج الكلامي يرسل العملية العلاجية نحو مجموعة العلاج الشمولي مع تحول العلاقة بين المراجع والمعالج إلى علاقة أبوية. هذا لا يعني بالضرورة بأن العلاج لا موقع له في الممارسة العلاجية النفسية وحتى إن تمت إدانته علمياً من قبل شريحة معينة من المجتمع. تتعامل الشعوب في مسيرتها نحو النهضة والتطور مع الحضارة البشرية الراهنة Civilization ومع ثقافتها الخاصة بها Culture. تسعى الشعوب نحو الانتماء إلى الحضارة البشرية الراهنة وتستنزف جهودها في الحفاظ أيضاً على ثقافتها ودمجها مع الحضارة البشرية الراهنة. خير من يوضح وجهة النظر هذه هو مؤسس علم الاجتماع التركي الحديث "محمد ضياء" (1876-1924) الذي تأثر بآرائه "مصطفى كمال أتاتورك" وكان له دوره في التحول الحضاري الذي حدث في تركيا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. كان يكتب تحت اسم كوغلب Gokalp وعرف بهذا الاسم طوال حياته. ركز على ضرورة الانتباه إلى الحضارة البشرية الراهنة والانتباه إلى خصوصيات الثقافة التركية على مستوى العائلة. ربما تفسر آرائه تبني "مصطفى كمال أتاتورك" للقانون المدني السويسري أيامها والذي بدوره يميل إلى الانحياز إلى دور الرجل على سيادة البيت العائلي مع الحفاظ على حقوق المرأة.
موقع العلوم النفسية في المجتمع العربي لا يختلف تماماً عما تطرق إليه مؤسس علم الاجتماع التركي حول بناء عائلة تركية جديدة تجمع بين الثقافة الموروثة والحضارة العالمية. هذا الموقع للصحة والعلوم النفسية العربية لا يخلو من الارتباك وفي محاولة بناء عائلة نفسية تحتفظ بالتراث والثقافة الموروثة والسائدة في المجتمع. لكنها في نفس الوقت لا تستطيع عزل نفسها عن الحضارة العالمية النفسية بل على العكس تعاليمها وممارستها مشتقة منها.
الاحتياجات الروحية للإنسان حق مشروع تعترف به الحضارة العالمية وتساعد المواطن على سد احتياجاته الناقصة ولا تمنعه من ممارسة أي عقيدة يتمسك بها. التوصيات العلاجية على سبيل المثال في اضطراب الحصار المعرفي (الوسواس القهري) تشير إلى ضرورة مساعدة المريض على الاتصال برجل دين للإجابة عن استفساراته المتعلقة بالعقيدة ولا يوجد أي حرج في ذلك. كذلك لا يوجد أي حرج لو أجاب الطبيب أو المعالج النفسي على أسئلة مراجعه إذا كان يمتلك الثقافة اللازمة. ولكن التفاعل بين المراجع والمعالج له حدوده والواجب على الطرفين احترامها.
المراجع رغم سواسيته بالمعالج لكنه في موقف ضعف وأكثر عرضة للاستغلال. عند هذه النقطة قد يصل سلوك المعالج إلى عتبة يشعر فيها المراجع أو أقاربه أو زملاء المعالج بأنه يستغل موقفه الأقوى ويعمل على الترويج إلى عقيدة معينة. معظم الشكاوى التي تصل الجهات المشرفة على مراقبة الأطباء هي من هذا النوع فيما يتعلق بالخلط بين الدين والممارسة الطبية.
لا أحد يستطيع أن يتجاهل بأن الحديث عن الثقافة العربية الموروثة هو الحديث عن العقيدة الإسلامية. إقحام العقيدة الدينية الإسلامية في الممارسة المهنية يقد يعزل شريحة من المجتمع لا يمكن التغافل عنها والناس سواسية في الخليقة قبل أن يكونوا سواسية في الدين. واحدة من نتائج الأحداث الدامية في العالم العربي هو هجرة وتهميش الأقليات الدينية التي استوطنته ومنذ زمن طويل وهذا ما كان ولا يزال تعتز به الحضارة الإسلامية ولكنها بدأت تفقد هذه الميزة تدريجياً وبسرعة وربما على الطب النفسي العربي أن ينتبه إلى المشاركة في هذه العملية.
ليس هناك بداية أفضل من إصدار توجيهات وإرشادات لممارسة العلاج النفسي في العالم العربي وتحديد موقع استعمال العقيدة الدينية في الممارسة المهنية. لا أحد يستطيع أن يتنكر لثقافته الدينية وتأثيره عليه ولكن آخر ما يهدف إليه هو وضعها في إطار العلاج الشمولي الذي لا يستند على أدلة علمية ولا يوفر حتى الأدلة المشتقة من الممارسة المهنية نفسها.
المصادر:
1- Butler A, Chapman J, Forman E, Beck A (2005) The empirical status of cognitive behavioural therapy: A review of meta-analyses. Clinical Psychology Review 26: 17-31.
2- Department of Health (2001). Treatment Choice in Psychological Therapies and Counselling. London.
3- Kaltenthaler E, Parry G, Beverley C, Ferriter M (2008). Computerised Cognitive-behavioural therapy for depression: systematic review. BJPsych 193: 181-184.
4- Keen A. Freeston M (2008). Assessing competence in cognitive-behavioural therpy.BJPsych 193: 60-64.
5- Margison F, McGrath G, Barkham, M, Clark J, Audin K, Connell J, Evans C (2000). Measurement & Psychotherapy. BJPsych 17: 123-130.
6- Williams A (1995). Therapeutic landscapes in holistic medicine. Social Science and Medicine 46:1193-1203.
7- Wong P (2012). The Human Quest for Meaning- Theories, Research, and Applications. Routledge Taylor & Francis Group. New York.
واقرأ أيضًا:
على هامش الشيزوفرانيا / وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي / نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية / أصوات Voices