بينما كنت أفكر فيما مر بخاطري من أن رمضان هو شهر الروح، بدأت تتقافز أمامي المعاني وتترابط، فكثير مما حصل ويحصل منا ولنا ونألم له ونهتم به، ويمكن تفسيره بالانحطاط والتجريف الروحي الذي نعاني منه ويستسلم أغلبنا له!
عندما أتذكر تاريخ ومصادر وحدود معرفتي بمسألة الروح حتى أعوام قليلة مضت لا أجد غير غبش وغموض، فيه هذا الاستسلام الكسول لتأويل مريح للآية التي تقول أن الروح من أمر ربي، وبالتالي نترك هذه المساحة جهلاً أو تجاهلاً، أو نكتفي بما يتلوه علينا الكهنة في مواعظهم الكنسية أو المسجدية بوصفها دروسًا في الروحانية، رغم أن الروحانية هي خبرات وتجارب يمر بها، وربما يتعلم منها كل فرد... مهما كان!!
وفي مجتمعات تزعم أنها متدينة تحولت الروحانية – مثل غيرها - إلى مسخرة كارثية في صورة دروشة سلبية، أو صارت مساحة مهمشة على أيدي المتدينين المتشاغلين عنها بمسألة السلطة والسلطان والتسلط على العباد، كما يتشاغلون بالآداب والمعاصي الشكلية الظاهرية عن أمراض القلوب وعلل النفوس، وطموحهم إلى السلطة يعلن رغبتهم في القضاء على هذه المعاصي الظاهرة وقمع أهلها، ويظنون في هذا إقامة لدين الله ولم يعتبروا بخبرات سابقة ومعاصرة صنعت جحيمًا للناس باسم إقامة حكم الله في الأرض، وما مكنت غير للطاغوت يستبيح الدماء والأعراض ويصادر الحريات ويكمم الأفواه ويعتقل كل من تسول له نفسه أن يقول: "لا"، لأنه خارج على "ولي الأمر الشرعي"، إلى آخر هذه التلفيقات السخيفة المرعبة!!
تحولت أوطاننا إلى مراعي لأنواع التشوهات النفسية وحالات انطماس الروح والبصيرة: في البيت أب وأم يعيدان إنتاج التسلط والقهر والهراء الذي تربيا عليه بوصفه السبيل القويم.
وفي قصور الحكم عصابات من السايكوباتيين – المرضى بالكذب الفاحش والوحشية البالغة وتقديس الغرائز وانعدام الضمير، وفي الإعلام عصابات أخرى لا تقل دموية احترافية ترتدي أقنعة مخملية براقة، وفي الطرقات والأسواق والمدارس والجامعات والمعابد والكنائس والمساجد يتزاحم أناس يزعم أغلبهم أنهم عُبّاد لله (بتشديد الباء)، وما يعبدون، ولا يقدسون إلا ذواتهم!!
الروح هي نفخة الله العلوية في خلقه، وهي المكون الأرقى وسط مكونات أخرى تتكامل ليصبح الإنسان إنسانًا، ونحن نعيش ما يرصده البعض في اشمئزاز بوصفه انعدامًا للإنسانية، أو غيابًا للأخلاق، أو عزوفًا عن المعرفة، أو تعاطفًا انتقائيًا يميز بين مظلوم ومظلوم، أو تطفيفًا في العدل بين بشر وبشر على أساس لون أو جنس أو عقيدة أو مذهب أو طائفة!!
ما نراه حولنا من عسف وقتل وظلم مركب وجهل عميق، إنما هي تداعيات هذا السبات العميق، أو التجريف والانحطاط الذي تعاني منه أرواحنا.
إعلاء مطالب الغرائز وإطلاق العنان للشهوات والاستسلام لمعتقدات وتصورات وتوجيهات فاسدة تربينا عليها وتغذي فينا ذواتنا المزيفة، وخوفنا من بعضنا، ومن إعلان ضعفنا البشري، وحقنا في أن نقدر ونخطئ ونتعلم ونصحح وفي اختبار الإنصاف والتجرد والقبول بالمختلف وتحري الحقائق وتقديم مقتضياتها على الوضع الاجتماعي والمكسب الشخصي... والرأي الذاتي في هذه الاختبارات، لم ينجح أحد إلا نادرًا.
لأن أعظم حقيقة في حياتنا وحياة أهلنا تكاد لا تشغلنا ولا ننفق فيها وقتًا ولا جهدًا يذكر، حيث تتحول عيون الناس إلى تليسكوبات يراقبون بها أعمال الآخرين وأخطاءهم ويضعونهم على شماعاتهم ويلومونهم مع الظروف والأقدار على ما تمتلأ به حياتهم من "مشكلات" دون نظرة واحدة عميقة -فضلاً عن المراقبة والمحاسبة- للنفس!!
بالتالي "الأنا" هي التي تقود حياتنا، أي هذه الذوات المزيفة التي تتغذى على الصراعات والتنافس وعلى الماديات، ونهم الغرائز وسجن وآلام الذكريات و"الأخطاء" القديمة والشعور بالذنب والبحث عن خلاص فردي من الجحيم الأرضي الذي تخلقه أكاذيب "الأنا" وتصوراتها الفاسدة!!
والذين حرموا أنفسهم من لذة الاستمتاع بسمو الروح المتصلة مع خالقها تواصلا عميقًا يهب صاحبه السلام والبهجة والمحبة فيحب الخلق جميعًا وإن خالفهم، أو خالفوه في سلوك أو فكر أو معتقد، أولئك المحرومون/الموتى لن يعبأ أحدهم بقتل غيره أو ظلمه، ولن يعبأ بضياع وطن ولا إهدار كرامة، ولن يشعر بجراح الآخرين، بل هو غافل عن حقيقة وجوده هو وغاية خلقه وعظمة الكنز الذي يحمله بين جنبيه ويغطي عليه بركام رخيص تافه يحسبه حياة!!!
كيف يتلامس رمضان مع هذا كله... الأسبوع القادم... نحاول!!
ويتبع >>>>>: شهر الروح2
واقرأ أيضًا:
على باب الله: رمضان العهد والوفاء/ التغيير والبديل / التغيير والتبديد