أتأمل فيمن يحرض غيره على أن يموت حتى يعيش هو، وأتأمل فيمن يرون الظلم والظالمين، ولا يرون مناصرتهم معصية كبرى، بينما تتمعر وجوههم إذا رأوا فتاة حاسرة الرأس، أو مفطرًا في نهار رمضان!!
شخصيًا لا أتصور الروح كيانًا صلبًا حتى أتكلم عن انكسار يصيبها، إنما أتصورها كينونة حية بحيث يمكن أن نتحدث عن سبات، أو غيبوبة الروح.
كيف تستيقظ الروح وتتغذى وتنتعش؟ وماذا يحصل حين تغفو روحك أو تدخل في غيبوبة؟
الروح تتغذى على الروحانيات، على روحانية التواصل مع مصدر الروح بالذكر، وعلى روحانية التواصل مع النفس بالتأمل، ومع الناس بالفنون الروحية، وبخاصة الموسيقى، وبالتواصل مع الطبيعة بالسير والنظر في الأرض، والسماء، والبحار، وحتى التواصل الجسدي الروحاني بفن التانترا.
سيتبين لك فورًا أننا نغرق أنفسنا في أنشطة لا تغذي سوى عقولنا، وأبداننا بأغذية بعضها سليم، وبعضها ملوث، ومع ضعف الروح – فلتر التصفية-، وعدم تغذيتها تكثر حالات التسمم، ولا نكاد ننتبه إلى أننا نتحول تدريجيًا إلى مسوخ!!
في الأصل كان الوحي خبرة تواصل مستمرة يخاطب الله فيه ما أودعه بالإنسان من فطرة وروح، ومعنى القرآن أن يبقى التواصل مع الوحي متاح وتبقى الروح طازجة منفتحة دومًا لتلقي المدد والنور وتبقى رهافة البصيرة فنضمن استقامة الجوارح. بالتدريج تحول القرآن إلى تمائم، وتعاويذ، وماكينة إنتاج حسنات لمصلحة قارئ يردد كلامًا لا يجاوز ترقوته إلى رأسه، فضلًا عن روحه.
أما الطبيعة فتحولت العلاقة بها إلى تدمير واستهلاك وتلوث وإفساد، وانتكست العقول بالمعرفة المسمومة أو غير النافعة.
نقف حائرين في ظلمة الدرب بعد أن عطلنا البوصلة، واستسلمنا لعطب البصيرة، وبدلاً من الانتباه لخطورة غيبوبة الروح، ومعالجتها، ذهبنا نهرب إلى الصراع من أجل الفوز بلقمة العيش، وإلى مناسك فارغة من محتوياتها الأصلية، وإلى استدعاء التدخل الإلهي في تدبير العيش اليومي، أو دفع البلاء، أو الخروج بالناس مما أوصلوا أنفسهم إليه بغيابهم، وتقصيرهم، وتهربهم من المسئوليات الفردية والجماعية!!
فقدت العبادات صلتها بالروح رغم أنها أعمق مقاصدها، رغم أن المناسك في الأصل تجلي مادي للروحانية، ووصل دائم بها.
كما سادت منظومة إحلالية كاملة نستدعي فيها العزيز الجبار ليحل محلنا فيما كان ينبغي أن نؤدي، وقد منحنا سبحانه الروح – الإرادة المستقلة الحرة-، ومنحنا الأدوات، والقدرات البدنية، والعقلية، والاجتماعية فعطلناها ثم ذهبنا ندعوا الله ليهلك أعداءنا، ويدفع كل الشر عنا، ويجلب كل الخير لنا، وتحول الدين عندنا إلى مجرد تجربة اتباع أحكام، وتكرار كلمات ومواعظ حول اجتناب المعاصي الفردية الظاهرة، بينما نعيش محاطين بشرور لا ندفعها من استبداد وفقر ومهانة ودونية وبطالة وجرائم وخيانات وأمراض!!
ولو تأملنا حولنا، وفي أنفسنا لوجدنا أن المعاصي الحقيقية من أمراض القلوب والمجتمعات، إنما تعمل عملها في تسويد القلب بنسب خيالية تفوق الذنوب الفردية!
تمثل الروح محورًا، وأساسًا لجوهر الأخلاق العملية في الحياة اليومية، وانتكاس الروح أو غيابها يعني أن يعيش الناس تحت رحمة القانون الوضعي، وكفاءة تطبيقاته، فإذا غاب هذا الأخير أو تحول إلى سيف مسلط في يد الظلم المتسلط تحولت الحياة إلى جحيم أرضي يهرب الناس منه بالهجرة أو الانتحار!!
انتكاس الروح أو غيابها ينتج قطعانًا من الرعاع المتهارشين الحمقى ليصيروا رصيدًا جاهزًا لكل ظلم، ووقود كل نار تحرق البلاد والعباد، والتخلي عن الإرادة الحرة المستقلة، وعن حس المسئولية الاستخلافية عن الله في أرضه ينتج بشرًا منزوعي الإنسانية، يتبعون كل ناعق، ولو إلى جهنم!!
بحسب "علي عزت بيجوفيتش"، فإن الثقافة تمثل الأساس الروحي، والحضارة تمثل الإنتاج المادي، وأمتنا ضائعة في انطماس ثقافتها، وفي غربتها عن التقنيات المنقولة غير الملائمة أحيانًا، والمعطلة أحيانًا أخرى!
حضور الروح يبدو شرطنا الأول لنتبين مواطئ أقدامنا، ورمضان يكاد يفلت دون أن نمسك بطرف الخيط الضائع منا، ولا نكاد نبحث عنه، وهو بداخلنا يئن ويحتضر!!
نور الله بداخلنا يخبو، ونحن نجهز عليه بمشاعر الذنب، والحرمان الغبي من التلبية الطبيعية للميول والرغبات، والإصغاء لطنين الكهنة، والاتباع للزعماء السياسيين، وجبابرة القوة المادية، وأباطرة التزيين والتزييف في الإعلام، والمعارف المزورة.
ذكر "عبد الله بن أحمد" في كتاب الزهد لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إلي أكفا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم؟ ولن تزدادوا مني إلا بعدا.
وهكذا نحن حين نعطل نفخة البارئ المصور العلوية فينا ثم نخرج إلى الصعدات نصرخ: يا الله .. يا الله .. يا الله
واقرأ أيضًا:
شهر الروح2/ التغيير والتبديد