الأمة التي تهارشت واختلفت حول الدعاء على الظالمين في قيام رمضان، لا يكاد يتمعر فيها وجه كل شخص فيها يشارك في الإهمال والإهدار والتبديد، ما سمحت له الفرص بهذا.
انتهيت للتو من الحديث مع صحفي كان يسألني عن اهتمام الشباب بالرياضة أكثر من الثقافة، وعبر النقاش اتفقنا أن أغلب الاهتمام الحاصل هو بمشاهدة وفرجة فقط، وعلى لعبة واحدة فقط، هي كرة القدم، وإن نسبة من يمارسون الرياضة من بين أعضاء أي ناد رياضي لا تتجاوز خمسة بالمائة، في أفضل الأحوال، فضلاً عن من يهتم بالثقافة أو الفنون !!
يسود لدينا جهل عام وفادح بما هو الإنسان، وكيف يعمل دماغه، وكيف يصون نفسه، ويستثمر طاقته، والنتائج واضحة تتجلى في هدر أهم ثروة يمتلكها العرب على الإطلاق: عزيمة وقدرات شبابية!!
الجهل يشمل السلطات، ويختلط برغبات التخلص من الإزعاج الذي يسببه الشباب المتطلع للحرية والرفاهة، والكيانات السياسية والاجتماعية والدينية ليست أفضل حالاً، فهي تريد قطعانا مطيعة، واصطفافا خلف الكهنة والنخبة، والقيادات الجاهلة بمختلف ألوانها.
الجهل يمتد إلى الأسرة، وإلى المدرسة، والجامعة، والكنيسة، والمسجد، والإعلام، وإلى كل شاب، وتبديد الطاقات هو جزء أساسي من حياة أغلب المصريين والعرب.
المقاهي عامرة بشباب في عنفوان سنوات حياته العقلية، والروحية، والجسدية، والملاهي كذلك، والشاب ينام متأخرا، ويستيقظ متضررا ليلحق بحصة علم نصف نائم، فإذا جاء الصيف الطويل نام نهاره، وأيقظ ليله فيما لا ينفعه، ولا يمتعه، اللهم إلا متعة الكسالى التافهين، وهو لا يرى في هذا بأسا لأنه محاط بأمثاله من المبددين لطاقاتهم.
أتابع ما يثار كل حين من قضايا تشغل أوقات واهتمامات متابعيها من رواد شبكات التواصل الاجتماعي، فلا أجد إلا رعونة في الاختيار والأداء، وسطحية في التناول، وهدرا للوقت والجهد فيما لا طائل من وراء تكرار الكلام فيه!!
وأتابع مجالس الناس وأحاديثهم في المنتديات، وفي المواصلات العامة فأجد نفس الصورة إلا قليلا، وأتابع تزايد معدلات الإدمان، وتصاعد العنف والتحرش والانتحار والبطالة والهجرة، وكلها أشكال من الهدر والتبديد للطاقة.
وتتقافز أمامي فرص المنح وبرامج الدراسات المجانية عبر الإنترنت، والمعرفة والمتعة الفنية والفكرية التي لا تكاد تجد لها طلابا، ومن يطلبها فإنما يفعل بحثا عن شهادة، أو مجد شخصي، أو منصب، أو مرتب، أو مكانة اجتماعية، أو ملاذ ببلد أجنبي، وفقط!!
لا تكاد تسمع غير مواويل الشكوى والنحيب والرثاء للذات، يشدو بها الإنسان العربي، ولسان حاله يقول مع الشاعر القديم (أضاعوني وأي فتى أضاعوا)، وتراه يحلم بفرصة سفر إلى الخارج، فإذا ذهبت تتابع ما يفعل هناك ستجده – في أحسن الأحوال – ضمن قطعان المستهلكين العاديين لم يزدد علما، ولا معرفة، ولا وعيا خارج عمله الوظيفي، ولا يمارس أي شيء غير عمله المصلحي، وبعضا من الترفيه البائس، وبعضنا قد يختار في غربته أن يخلع كل ما يربطه بجذوره، ويأخذ بما في حياة القطعان الاستهلاكية هناك من زخرف الحياة المادية التافهة!
وفي الداخل سنجد العادات والتقاليد والمفاهيم البالية والتخلف باسم الدين وجنون مجتمعات جاهلة بالإنسان، وبالدنيا، والدين.. الذي تعتقد أنها متمسكة به، وما يصاحب هذا من تبديد للوقت والجهد!!
تأملوا في طاقات هذه الأمة المسكينة المبتلاة بجهلها، المستمسكة به، من أين تأتي؟ وأين تتبدد في الداخل والخارج؟
نفس هذه الأمة تشكو الفاقة، وتقف ضارعة بين يدي إله سميع بصير، حكيم عزيز تدعوه أن يرفع عنها الغلا والوبا، وتشكو ظلم الظالمين، وبطش الجبارين، وتسلط الأعداء، رغم أن مواجهة الظالمين علم ومعرفة وتراكم خبرات!!
يقف كل إنسان جاهل بنفسه وربه ودنياه ليسأل مولاه أن يرزقه من حيث لا يحتسب، وأن يغفر له الذلات والمعاصي التي هي في تقديره مجرد نظرة لعورة امرأة، أو غيبة أو نميمة، ولا يكاد يعد من معاصيه هذا العمر الذي يبدده، وتلك الطاقة التي يهدرها، وهذه التفاهة التي لا توجعه لأنه مثل أترابه و من حوله!!
نفس هذه الأمة تتهارش بصخب حول التغيير الذي لا ينجح أبدا، والظالم الذي لا يرحل أبدا، والقديم الذي لا يتجدد أبدا، ولا تكاد تتصارح بأن رحيل الظالم، وتجديد القديم، ونجاح التغيير هي المهام التي لم يقم بها أحد لأن الناس قضت وقتها على المقهى، أو في نقاشات فيس بوك، أو مكالمات الهواتف النقالة تستهلك الفرجة والتفاهة والكسل.
واقرأ أيضًا:
محنة الروح