بين الاختصاصات الطبية والنفسية: الصرع.. أما آن الأوان أن نغير هذا المصطلح؟
ورقة عمل تهدف لشرح الأسباب الداعية للتغيير
الصرع مرض ذو بعد اجتماعي هام
لقد تطور فهم وعلاج داء الصرع حتى أصبح من الأمراض التي تتماشى مع حياة طبيعية إلى حد بعيد. وإذا كان هذا صحيحاً من الجهة الطبية العلاجية البحتة، إلا أن مرضى الصرع لا زالوا يعانون في مجتمعنا من صعوبات كثيرة ترتبط بعدد من المفاهيم الخاطئة القديمة التي لا تزال منتشرة حتى الآن. ولابد أن كل من تعامل مع مرضى الصرع قد واجه العديد من المواقف التي تعكس هذه المفاهيم وتبين مدى المعاناة التي لازالوا يعيشونها نتيجة لذلك.
تبدأ آثار هذه المفاهيم بالظهور منذ البداية، فجو العيادة مشحون بالقلق والتوتر الذي يصل ذروته مع النطق بالحكم والإفصاح عن التشخيص. ولا تنفع محاولات الطبيب المتكررة في الشرح وتوضيح حقيقة المشكلة إلا لدرجة محدودة في طمأنة المريض وخاصة أهله إن كان طفلاً، وعلى الرغم من شهادة البراءة التي لا نتردد في تأكيدها مراراً، يبقى الإنزعاج والخوف قائماً، وقد يصل إلى درجة رفض التشخيص وما يتبع ذلك من تنقل العائلة من طبيب لآخر ولفترة قد تطول إلى أن يتقبل المريض أو أهله هذه"المصيبة". ولا يفوتني هنا أن أشير بدون تفصيل لدور الطبيب الشعبي الذي تتراوح أهميته في هذا المشهد ما بين المهم والأهم.
إن معظم أهل المرضى يطلبون عدم إخبار أطفالهم باسم المرض. وأظن أن العديد منا يستجيبون لذلك بكل تفهم بل غالباً ما تكون المبادرين لذلك، فتتكلم معه عن "الحالة" التي تعتريه أو "الإغماء" الذي يصاب به، ونبتعد عن ذكر لفظة الصرع. ولا شك أن المشكلة أكثر ما تؤثر على الأطفال الذين غالبا مالا يكون لديهم فكرة واضحة عن مشكلتهم. ويتسبب ذلك بالإضافة لجو التكتم والحماية المفرطة من قبل الأهل في خلق الاضطراب النفسي لديهم، الأمر الذي ينعكس على التحصيل الدراسي للطفل وصحة العلاقة مع أقرانه. وكثيراً مايعني حدوث النوبات في المدرسة مشكلة حقيقية تؤثر سلباً إلى حد كبير قد يصل إلى توقف الطفل عن متابعة الدراسة.
ولا شك أن كلاً منا قد مر بتجربة زواج أحد مرضاه أو مريضاته، إذ تبدو معاناة المريض وعائلته في الحيرة بالتعامل مع الموضوع فهل يخبرون الطرف الآخر أم لا!!!
ودون أن نحاول تحديد السلوك الأكثر شيوعاً، يمكننا أن نتوقع في كلتا الحالتين نتيجة سلبية لدرجة ما، فقد يقرر الأهل إخبار الطرف الآخر آخذين في الاعتبار احتمال الفشل، إلا أنهم كثيراً ما ينتهون للتكتم على المشكلة لربما بانتظار الوقت المناسب. وغالباً ما يرافق ذلك رغبتهم في إيقاف العلاج بسرعة. وقد يقومون بذلك بأنفسهم متسببن في اضطراب بضبط الحالة. والصورة المزعجة نراها عندما نعرف بأن المريضة أو المريض مستمرين بأخذ العلاج سراً ويمكننا تصور ما يرافق ذلك من ضغط نفسي وتوتر ينعكس على العلاقة الزوجية سلباً إن لم يتسبب في إفشالها.
وأخيراً في هذا المجال لا تغفل مدى تأثير الصرع السلبي على عمل المريض. إذ أن أبسط ما يسببه للمريض هو الإحساس بالإحراج الذي يتبدى لنا بإصراره على عدم ذكر التشخيص في أية مكاتبة رسمية تتصل بالعمل. وخلفية هذا التكتم لا شك تتضمن الخجل ولربما الخوف من انكشاف هذا السر وما قد ينجم عنه من تأثير سلبي على علاقته برؤسائه ومرؤوسيه ولربما مستقبله الوظيفي ككل.
إن هذه الأمثلة التي قمت بوصفها لبعض المشاكل التي يعاني منها مريض الصرع في مجتمعنا وكذلك أنماط السلوك غير الطبيعي لديه هي على الأغلب نتائج مباشرة لنظرة المجتمع الخاطئة لمريض الصرع، وليست وليدة تأثير حقيقي لداء الصرع على قدرته على الأداء سواء في المدرسة أو العمل.
والسؤال هنا: إذا كان المجتمع ينظر إلى الصرع على أنه مرض خطير أو لنقل ذو سمعة سيئة، فهل إن مثله في ذلك مثل أمراض أخرى خطيرة أو مستعصية على العلاج؟ أم أن المجتمع ينظر للصرع على أنه أسوأ سمعة بصورة غير عادية حتى من هذه الأمراض الخطيرة؟
داء الصرع مقارنة مع الأمراض الأخرى "سيئة السمعة"
لا شك أن العديد من الأمراض سيئة السمعة قد تغيرت نظرة المجتمع لها مع تنامي الثقافة الطبية. وأضرب مثلاً على ذلك مرض الدرن أو السل، إذ لم يعد هناك أية صعوبة في إخبار المريض هذا التشخيص، فالمريض وعائلته يتقبلون ذلك بسهولة بمجرد أن نشرح لهم أن العلاج سيؤدي للشفاء التام، كما هو الحال في أغلب الأحيان. علماً بأن السل وإلى وقت ليس بالبعيد كان مرادفاً للموت البطيء، ولا تزال صور المعاناة به باقية في الآثار الأدبية والعلمية المختلفة، كما لاتزال لفظة "المسلول" تستعمل باللهجة الشعبية حتى وقتنا هذا في وصف من سلبت عافيته، لكن كل هذا التاريخ تناساه المجتمع تماماً عندما أصبح المرض قابلاً للعلاج. فهل كان الصرع في السابق أشد منه تسبباً للمصائب والموت!!
ولنأخذ مثلاً آخر، لنفترض أن الطب قد توصل إلى علاج السرطان، وهذا ليس بالأمر البعيد، ألا نتوقع عندها أن يصبح إخبار المريض عن مرضه أمراً عادياً يتقبله المريض بكل يسر؟، بل ولا شك أننا عندها سنوقف عن وصفه بالورم الخبيث مقابل الورم الحميد، وقد يختفي مصطلح السرطان نهائياً.
إذاً ما هي المشكلة في حالة داء الصرع؟ إنها ليست في كون الصرع داء مستعصياً على العلاج فكلنا نعرف ونكرر ونعيد على المرضى وأهلهم في معظم الحالات مدى براءة مرضهم واستجابته الجيدة للعلاج المنتظم، لكن رغم ذلك يبقى لدى المريض ذلك الشعور بالاحراج والخجل من مرضه، ما يدفعه لأن يبقيه ما أمكن سراً مكتوماً عن الآخرين، عن المجتمع الذي يحمل خليطاً من المفاهيم المتوارثة عن الصرع تثير النفور والتوجس وأحياناً الخوف من المصابين به.
فما هي طبيعة وخلفية هذه المفاهيم؟ ولماذا تثير مشاعر الدونية والنقص عند المرضى؟
الصرع… الخلفية التاريخية (الصرع التاريخي!)
للإجابة على هذا السؤال من المفيد العودة إلى الوراء والتمعن في البعد التاريخي الذي يحمله داء الصرع وما يرتبط بهذا المسمى من معان وأمراض لاتمت بصلة لمرض الصرع كما نعرفه بمفهوم الطب الحديث، فبسبب التظاهرات السريرية المختلفة "غير العادية" العنيفة والمخيفة في بعض الأحيان، أعطى القدماء للصرع تعليلات عديدة "فوق طبيعية" تثير الخوف من هذا الداء والنفور من المصابين به.
فمن جهة ذهب اليونانيون لاعتباره من صنع قوى حارقة إلهية وأطلقوا عليه اسم المرض المقدس أو الإلهي. فكان مريض الصرع يعالج معالجة خاصة إذ يؤخذ للمعبد فيغسل ويدهن بالعطور والزيوت ويؤمر بالصيام وأداء طقوس خاصة وتقديم القرابين للآلهة الناقمة لكي تصفح عنه (كما كان يتم في معبد اسكوليبوس).
وبنفس المنحنى اعتقد اليهود أن عدداً من الأمراض ومن ضمنها الصرع والجنون ما هي إلا عقاب للمذنبين، بالتالي كان على المريض أن يكفر عن آثامه ويطلب التوبة سعياً للشفاء.
من جهة أخرى اعتقد آخرون أن المسبب للصرع هي قوى شريرة تسيطر على المريض وتلغي إرادته، وبالتالي يتمثل العلاج في مساعدته على التخلص من هذه القوى وطردها من داخله. فهنود قبائل الأنكا مثلاً كانوا يقومون بإحداث ثقوب في جمجمة المريض بهدف إخراج الشياطين والأرواح الشريرة منها. وعلى العموم كان مرضى الصرع قديماً في مجتمعاتنا يعالجون مثلهم مثل المصابين بالأمراض العقلية بأساليب مختلفة كثير منها يشتمل على العنف، وذلك بهدف طرد القوى الشريرة من داخل المريض.
لكن لابد أن نذكر أن عدداً من الأطباء القدماء بدءاً من أبوقراط ووصولاً لأعلام الطب الإسلامي كابن سينا والرازي قابلوا هذه التفسيرات غير الطبيعية للصرع بتفسيرات علمية من حيث المبدأ، أي على أنها حالات تنجم عن اضطراب دماغ الإنسان وعقله وبالتالي توجهوا في علاجهم نحو "تهدئة الدماغ وتطمين العقل" بل و"زرع الثقة في نفس المريض"!!!…. ولكن حتى هؤلاء بقوا يضعون الصرع في نفس مجموعة الأمراض العقلية المعروفة بالجنون، مثلهم في ذلك مثل بقية الأطباء في ذلك الوقت. لذلك بقي الجنون أحد المعاني المتداولة للصرع. ففي معجم منن اللغة يعرف الصرع بأنه داء يشبه الجنون، ويقال: صُرع بمعنى جُنّ فهو صريع والصريع هو المصروع أو المجنون.
الخلاصة
بالخلاصة إن الإرث التاريخي لداء الصرع مشحون بالصور والتفسيرات الشديدة الإزعاج والمثيرة للنفور والخوف لدى المريض ومن حوله. ولا شك في أن بعضاً منها لا زال يقبع في عقول الناس في مجتمعنا، ويتحكم في نظرتهم لمريض الصرع وتعاملهم معه ومع مشكلته. وإذا كنا نتوقع من تطور الثقافة الصحية أن نغير الكثير من هذه الأفكار وندعو لذلك، إلا أن علينا أن نكون متفهمين للواقع وندرك أن موضوع الصرع بالذات قد يكون معقداً بعض الشيء يبقى فيه مجال لعدم الوضوح.
وأشير بهذا المجال لما ذكره الإمام ابن قيم الجوزية في القرن السابع الهجري في كتابه الطب النبوي عن وجود نوعين للصرع، فهناك صرع الأرواح الخبيثة الأرضية، وهناك "صرع الأخلاط الرديئة" الذي يتكلم فيه الأطباء مشيرا إلى إنكار جهلة الأطباء وسقطهم لصرع الأرواح.
بالتالي وبقصد عدم الدخول في نقاش غير مفيد، أقول أنه من الواضح أن داء الصرع كما عرفه القدماء وحتى عصرنا هذا لم يكن بالضبط ما نعنيه حالياً بداء الصرع المرتبط باضطراب النشاط الكهربائي للدماغ، بل خلطت به الحقيقة بالخيال إضافة لخلطه مع الأمراض العقلية والنفسية المختلفة.
ويبدو لي أن الحل المناسب أن نقوم بفصل مرضنا هذا عما دعوناه "بالصرع التاريخي" وذلك بأن نطلق عليه اسماً مختلفاً يميزه بالخصوص كداء محدد له تعريفه الطبي الواضح ونترك مصطلح الصرع لكتب التاريخ الطبي لتعني به ما تشاء. وبذلك نكون قد ابتعدنا بأنفسنا وبمرضانا عن أي لبس وخلفيات لا شأن لها من قريب أو بعيد بمشكلتهم الحقيقية أو بطرق علاجها. وهذا هو السبب الأول الذي يدعونا لتغيير مصطلح الصرع لكي نرفع عن كاهل المرضى العبء التاريخي الذي تحمله كلمة الصرع. أما السبب الثاني والذي لا يقل أهمية في مجال تغيير المسمى فهو يتعلق بلفظة الصرع من الناحية اللغوية الصرفة. إذ أن لفظة الصرع بحد ذاتها ذات معنى قاسي ومزعج.
واشتقاقاتها العديدة المستخدمة في الحياة اليومية توحي بالعنف والإهانة فالمصروع بالعامية لا يقصد به المصاب بنوبة الصرع، بل هي إهانة بقصد بها تخبط العقل واضطراب التفكير وإذا كان مصطلح "الجنون" قد اختفى تقريباً من قاموس الطب المعاصر، فلم لا يأتي الدور على قرينه الصرع، الذي يقاربه بالمعنى في لغتنا العربية.
وأختم لأقول أنني أرى ذلك لو تحقق كأفضل هدية نقدمها لمرضى الصرع في مجتمعنا، علها تساعدهم في رفع هذا العبء المزمن الثقيل الذي لا يزال يحملهم إياه المجتمع حتى الآن.
واقرأ أيضاً:
صرع الفص الصدغي / الصرع بين العلم والدجل والطب النفسي / الصرع في الأطفال: نصائح عملية / العقاقير المضادة للصرع والصحة النفسية