منذ حوالي أسبوعين أرسل إليَّ صديق سوري صورة وفيديو قائلا "يرسلونهما للضحك، ولكنهما لا تثيران فيّ إلا الأسى!!"... تساءلت في أسى أهكذا أصبح حالنا؟!! وهذه كانت الصورة المقابلة ومقطع الفيديو تحتها فأما الصورة فشارحة نفسها... وأما الفيديو فأبكاني ربما بقدر ما أشعرني من أسى!... السوريون بالنسبة لي شعب مختلف قصتي مع تمني زيارة دمشق التي أسعد بها ذكرتها من قبل في مدوناتي مرة عن زيارتنا لبنان في الحرب 2006 بينما مطار رفيق الحريري مغلق فمررنا بدمشق وبتنا ليلة واحدة وأكلنا الشاورما السورية وبوظة بكداش في الحميدية، ومرة إبان مؤتمر الأطباء العرب سنة 2008 حيث رافقنا اثنان من أعز الأصدقاء والتقينا هدية الله لمجانين وموسوسيه أ. رفيف الصباغ، كما التقيت المستشار العراقي خليل إبراهيم عليوي لأول مرة في حياتي وعرفت أنه جاء من اليمن السعيد وليس من الفالوجة مسقط رأسه الذي تركه بعد الاحتلال الأمريكي إلى اليمن،..... سورية كانت وتبقى لي وطنا ثانيا يشعرني بأنه ذا فضل علي وعلى مجانين،... والسوريون كلهم أو كل من عرفت منهم وهم كثير أهل عزٍّ وكرم،... لهذا وغيره كثير كان الفيديو مبكيا لا مضحكا لي بحال.
لماذا السوريون بالذات يتغنون اليوم بهذا الشكل؟ لماذا رغم أن حالة هجرة الشعب إن استطاع هذه موجودة في بلدي الأول مصر... نظرا لضيق العيش بأيٍّ من صوره ولعل هذا أمرا قديما قدم ضيق العيش في مصر، وإن حدثت طفرات متتالية منذ ارتفاع أسعار البترول بعد حرب العاشر من رمضان بين من سافروا بداية لجلب المال ثم طاب لهم العيش حيثما نعموا، وموجودة الهجرة أو التهجير القسري في شعب فلسطين ولكنهم غنوا للعودة هم وكل العرب –رحم الله أيامهم- وأغانيهم في العودة مشتهرة ومعروفة، كذلك فالهجرة من لبنان الحبيب ولأسباب تاريخية أيضًا مشهورة، ومن العراق منذ عهود ما بعد الاستعمار وقد شهدت طفرات منذ عهد صدام حسين وحتى اليوم.... وهي كذلك في بلدان المغرب العربي... لكن صور المراكب في البحر الأبيض المتوسط كانت ماثلة في عيني وأغلب من فيها سوريون.. نساء وأطفال وشبان كالورود الذابلة...
تذكرت أحوال من أعرف من السوريين في مصر وهي البلد الذي تغير فيه كيان الخلق 100% من مرحبين مهتمين مضيفين للغريب إلى غير مبالين أو مستغلين أو محتالين أو حتى رافضين... يؤسفني هذا الكلام تأكيدا وليس لدي أي معلومات عن أحوال السوريين في مصر إلا من خلال من أعرف من المرضى وأحوالهم وتعاملاتهم مع المصريين، وأكثر ما في تلك المعلومات يبعث على الأسف، لكن ليس المصريون أغلبهم كذلك إحسانا للظن،...
لم يعد خافيا أن معايير المواطنة في المنطقة التي نعيش فيها اختلت بشكل كبير وفجٍّ في علنيته أحيانا حتى أن إشكالية الجنسية لم تعد تقتصر على الدول التي ترفض إعطاء جنسيتها لمن لم يعرفوا غيرها بلدا فظلوا يعيشون وجنسيتهم: "بدون" إلى الدول التي أصبحت عيني عينك -كقول أهل مصر- تسقط جنسيتها عن المعارضين السياسيين لنظام حكمها الحالي...
هذا المشهد المؤسف متكرر حولنا بشكل كبير وبصور شتى ورغم ذلك يطلع علينا بين الحين والآخر من يستنكر هجرة الوطن؟ كيف ونحن نحرم الإنسان من الأمن وهو الأدنى في هرمية الحاجات الإنسانية كيف نطلب منه الوفاء للوطن؟ ثم نحن إن كان معارضا نراه شيطانا من المغضوب عليهم والضالين.... ونفكر كيف نسقط عنه جنسيته!... ألسنا في عداوتنا نغالي أكثر من المعقول!... فليسأل كل عاقل نفسه ولو في سره؟ هل هذا هو اللازم جدا تجاه عدونا في الحرب على الإرهاب؟
أذكر شعرا قديما كتبته أيام الشكوك في رشدي المبكر، قصيدة سميتها الفرق كتبتها في مطلع شبابي في السنة السادسة من الطب كنا أيامها نلخص الفرق بيننا وبين الغرب في أن هناك تساو للفرص للجميع ولا يكون التميز إلا على أساس التميز لا الوساطة ولا الدين مثلما الحال في بلادنا وهو ما رأيته وقتها دليل إيمان بالإنسان، وكنا نرى أمتنا أو مجتمعنا لا يؤمن بالإنسان ولا يعترف بحاجياته إلا إن كان غنيا أو ذا نسب أو قرابة...إلخ، وأحلام غالبيتنا كانت الفرار إلى تلك البلاد لأن بلادنا التي هي حامِلَةُ القرآنْ ! (وفيه ولقد كرمنا بني آدم) بلادنا أو مجتمعاتنا رأيناها تؤمِنُ باللهِ!! وباليومِ الآخرِ نِعْمَ الإيمانْ، لكنْ لا تؤمِنُ بالإنسانْ.
... هنا تكمن مشكلة الناس في بلادنا كما اختزلناها في مطلع شبابنا أنهم لم يتعلموا أن يؤمنوا بالإنسان! وأما كيف حدث هذا في مجتمعاتنا المتدينة -والأديان تعلي من قيمة الإنسان-، فأمر يطول فيه البيان .. دعونا نعود إلى ظاهرة هجرة الشعوب، ولعل الشعوب التي هاجرت تاريخيا إنما هاجرت بسبب الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين....إلخ إلا أن مجتمعاتنا لها السبق في تهجير الشعوب نتيجة لطغيان البشر أو بالأحرى طغيان مجموعة منهم فهي كوارث بشرية لا طبيعية، طوفان الهجرة الذي يجتاح المنطقة التي نعيش فيها مختلف كل الاختلاف عن كل ما سبق، حتى في نوعية من يهاجرون فهم ليسوا كما هو المعتاد شبابا يهجرون أوطانهم، كثيرٌ من المهاجرين من غير الشباب، ولم يعد الأمر مقتصرا عليهم بشكل واضح هذه الأيام؟ يا ترى لماذا يحدث ذلك؟
الحقيقة أن كثيرا من الناس في منطقتنا أصبحت حياتهم مهددة وأحيانا من عدة أطراف، أليس حق الإنسان في الحياة هو الحد الأخير الذي بسقوطه يصبح وطنه نفسه أينما هرب بها؟ أليس هذا حقه إلا أن يختار الموت على تراب وطنه... إذن وصلت بلادنا وبالأخص العراق والشام إلى المرحلة التي لابد أن تهاجر فيها الشعوب....، وأذكر عندما هجمت قوات التحالف الأمريكي الإنجليزي على العراق أننا غيرنا اسم ملف فلسطين يد بيد إلى فلسطين والعراق وما يستجد! مستشرفين ما لا ندريه وفعلا لم نكن ندري أي الأقطار قادم عليه العدوان، وحقيقة كان القلق وقت تغيير الاسم على لبنان وعلى الصومال... لكننا لم نتخيل أن يطال الأمر الشام... ولا يوما تخيلنا أن شعوبنا ستغني للهجرة ولا تحلم بالعودة وتغني لها كما اعتدنا بعد ضياع فلسطين.
ربما حتى عهود قريبة بل وحتى الآن كنا وما زلنا نسمع عن النجاح الباهر والسعادة التي يجدها المهاجر وإن بتواتر أقل في الآونة الأخيرة... وهذا بيننا نحن أحد الأجيال التي هاجر نذرٌ منها غربا وانقطعت صلتنا ببعض ثم أخيرا جاءنا الفيس بوك بأخبار بعض أقراننا فعرفنا كيف حال الذي هاجر "تعب فنجح فقدر نجاحه"! بينما ما حدث مع من تبقى في بلده أنه اعترك الحياة فرزقه الله ما شاء له من رزق وعمل، لكننا وعلى مدى السنوات تابعنا شروط هجرة الأطباء فوجدناها تضيق بالتدريج وبدأ يشوب عدلها خصة في الآونة الأخيرة تمييز "لا ينكر" بين القادمين من أماكن مختلفة من العالم أي تمييز على أساس ديني أو عرقي، باختصار هجرة الأطباء غربا تزيد صعوبتها وتضيق فرصها وشروط القبول لتقديم الطلب أصبحت أصعب فضلا عن أن النجاح في الحصول على الهجرة أصعب وأصعب، وبرغم ذلك ما يزال ما ننصح به أبنائنا هو حاولوا الحصول على عمل هناك ونشير غربا! مع الأسف ومزيد الإحباط.
الفقرة السابقة تحدثنا فيها عن نوع من الهجرة شبه الشرعية ربما للأطباء خصوصا، وكانت تشير إلى الحال في رؤية بعض الناس للمجتمع ومستقبل المنطقة التي نعيش فيها حين صار البحث عن العدل ولو كان عدلا جزئيا أفضل من كل الغياب للعدالة، فرغم فضيحة القيم الغربية ما زلنا على استعداد للمغامرة بأبنائنا! وما تزال حكايات النجاح تغري أمانينا، أما الأفدح كثيرا من ذلك فهو تأثير نفس الحكايات عن النجاح والنعمة التي يجدها من يعيش في أوروبا من العمال والفنيين من القرى فأمر ممتد في مصر منذ سنين ولكنه استشرى في الآونة الأخيرة بين الشباب حتى أن هناك قرى يكاد يكون شبابها بالكامل سافر للعمل هناك سنينا أو إن أراد واستطاع هاجر وأصبح مستوردا لذويه وأهله وجيرانه ومن أشهر الدول في ذلك إيطاليا والنمسا، لكن الوجه الأسود هو دخول "الشركات عابرة الجنسية" أو بالأحرى عصابات تهريب العمالة إلى إيطاليا أو إليها عبر غيرها حيث تتمخض حلكة سوادِ المأساة لتنقشع عن مئات من شبابنا غرقى مع غيرهم من العرب والأفارقة على مر السنوات.... وأيامها كتب ابن عبد الله: مصر ولادة وأولادنا متفرجون ومتفجرون.
وجدير بالإشارة إلى التحول الذي حصل في الآونة الأخيرة من الهجرة المؤقتة إلى الاستعداد والتخطيط للهجرة الدائمة، فبعد أن كانت الهجرة حتى الزواج ثم حتى يكبر الأولاد في كثير من الأحوال، صارت الهجرة حتى الموت هناك مع الأولاد في أغلب الأحوال، وتواتر ذلك التحول بشدة في الشباب والكهول والكبار بعد مآل الربيع العربي أو الرعيب العربي كما أسماه أديبنا العراقي المهاجر إلى أمريكا د. صادق السامرائي في مدونته على مجانين.
تحاول أوروبا الرسمية أن تسارع بتجميل وجهها الذي على الأقل بدا قبيحا لأيام أزمة المهاجرين الأول... تتدخل ألمانيا والنمسا، والأجمل من ذلك وكنت شخصيا أتوقعه وأنا أشاهد تقرير الجزيرة الأول في الموضوع فكرت هكذا: لا يمكننا أن نتوقع أن يقف لهؤلاء أحد فالأنظمة العربية إما لا يهمها من هم من شعبها ناهيك عن غير شعبها أو مكتنفون في أزمات لا أحد يعرف متى تنتهي، قلت لكن يمكن لمؤسسات المجتمع المدني في أوروبا وللشباب غيرهم من القادرين على الدفاع عما تربوا عليه من قيم...
توقعت أن تخرج تظاهرات خاصة في ألمانيا وفي فيينا النمسا ذاك البلد الشمالي الجميل، وفي كلا هذين المكانين شاء لي الله منذ سنوات قريبة أن أحضر تظاهرات شبابية تنادي بقيم جميلة وأهداف صحية واعية كالعودة للطبيعة وهي في جوهرها بالنسبة للمتدينين أن تضع الثقة في الله أكثر مما تضعها في بني البشر..... والصورة المقابلة في ميونخ الألمانية وكانت للتعريف بأهمية الأغذية الطبيعية ويظهر على يسار الناشطة مستشارنا المهدي، المهم عندي هنا هو الوعي الشعبي فهؤلاء الذين تربوا في مدارسهم واعتادوا في تعاملاتهم على قيم غربية مجردة وحقوق تسمى حقوق الإنسان أي إنسان هؤلاء غالبا لن يقبلوا تصرفات دولة مثل المجر التي تقول بوضوح أن بعض بني الإنسان ليست لهم حتى حقوق الحيوان، توقعت التظاهرات في ألمانيا والنمسا وقد خرجت أروع مما توقعت.
مرة أخرى ماذا حدث في بلادنا ولماذا فقد كثيرون إيمانهم بأوطانهم، ولماذا لا تحد الصعوبة والمخاطرة والإهانة والموت أثناء محاولة الهجرة غير الشرعية ولماذا لا يحدها ما نسمع ونشاهد ونناقش من كوارث غرق واختناق وأخيرا ذل وإهانة في أوروبا الموحدة، كل ذلك لماذا لا يحد من التدفق الأعمى تجاه هناك؟ هل فعلا صار البحث عن العدل الجزئي غاية ما يطمح إليه هؤلاء ومقابل الموت؟ بل بالله ويؤسفني أن أسأل قرائي على مجانين بعد ما شاهدناه جميعا على الفضائيات من مآسٍ أفرزتها أزمة الهجرة المتدفقة من سوريا كم تتوقعون أن يحد ذلك من المستميتين على شواطئ أوروبا رغم عنصريتها وغطرستها؟، وما معنى أن تنحصر غاية الإنسان في الحصول على العدل ولو جزئيا؟ وأخيرا من أين يجد القوة أولئك المرابطون في أوطانهم؟ خاصة في الشام والعراق ؟ يرفضون أن يهاجروا منها لا تحيزا لطرف إلا لله والوطن؟
واقرأ أيضًا:
شيزلونج مجانين: عن الانتماء/ يوميات مجانين: عربية المصريين/ لغة الحرب وحرب اللغة