من أخطر ما مضت عليه الأمة في مسيرتها الطويلة أنها عملت بمنطق "الضرورات تبيح المحظورات"، مما وفرت لذوي النفوس الأمّارة بالسوء الفرص اللازمة للوصول إلى تحقيق رغباتهم ونوازعهم المطمورة فيهم. وقد رفع رايات هذا النهج الحكام الذين يحكمون بأهوائهم ويتسلطون على الناس فيبخسونهم أعمالهم، ويصادرون حياتهم، فلكل آثمة ما يبررها ويسوغها ويعززها، من رؤى وفلسفات "الضرورات تبيح المحظورات".
أي أنها بدلا من أن تكون حالة محصورة وليست قاعدة عامة سارية، تحقق العكس تماما، ذلك أنها وفق المنظور الفقهي والشرعي والقانوني بحاجة إلى تقييم قانوني وإصدار قرار حكم يستوعب القضية، ولا يمكنها أن تكون قاعدة عامة وشائعة، ويُعمل بها في كل شأن.
ذلك أنها إن شاعت، فأنها لا تفترق عن منهج "الغاية تبرر الوسيلة"، بل تعزز السلوك الميكافيلي المعروف، والذي نتقول عليه ونأباه، لكننا في ذات الوقت نترجم سلوكيات "الضرورات تبيح المحظورات"، والتي تسببت بدمارات وخسائر فادحة للحياة والمجتمع والدين.
وفي أيامنا المعاصرة، تتداولت الألسن والخطابات هذا المفهوم، الذي حوّل الحياة إلى سقر، والإنسان إلى حجر، والبشر ضد البشر، والجميع ينادي إلى أين المفر. فالمحظورات تبقى كذلك ولا يمكنها أن تكون غير ذلك، إلا فيما قل جدا وندر، والضرورات عليها أن لا تبيحها، لأن لها منافذ أخرى وآليات تحقيق غير التعاطي بالمحظورات.
فقتل المسلم لأخيه المسلم من المحظورات، فأية ضرورة تجيزه، وأكل مال الآخرين ومصادرة حقوقهم من المحظورات، فبأي ضرورات يباح الاستحواذ على حقوقهم ومصادرة ثرواتهم، وغيرها الكثير من المحظورات التي استبيحت باسم الضرورات، وما وجدت ضرورة لأية استباحة مهما صغرت أو كبرت، وإنما الذي نسف المنحذور هو النهج السقيم العدواني الكفور. ولهذا فعلى الفقهاء والغيارى أن ينهضوا بوجه الدعاوى الشاذة الظالمة الساعية لتدمير جوهر وجود الأمة، والنيل السافر من عقيدتها ومرتكزات دينها وقيمها وأخلاقها السامية الرحيمة الفاضلة.
وإنْ بقيَ أولي المسؤولية والشأن على صمتهم وتغافلهم وجهلم، فإن الأمة ستقع في الهاوية السحيقة وتندثر تماما وتغيب، فما عاد للصمت مكان في حياة الأمة، بعد أن أسقطت الحركات المدعية بالدين كل محذور وأعلنت بقوة أنها الضرورات التي تمحق قيم الدين وتدمر ما يمت بصلة إليه، ولهذا فإنها ترتكب الفواحش والخطايات، وتشيع الأحزان والآلام والبؤس وتقهر الناس وتستلب وجودهم وتقودهم إلى ويلات المصير.
فهل سينهض العارفون وذووا العقول والقول الراجح للتصدي لهذه المحنة الجلل العاصفة في أرجاء الأمة، وهي ترفع رايات الدين، وما تقوم به يتسبب بتداعيات مريرة تساهم في إعلاء شأن أعداء الدين، وتمنحهم الأدلة والمواد والمسوغات اللازمة لتكثيف الهجمة على الدين وأهله.
واقرأ أيضاً:
السلطة والدولة!! / الشعوب تصنع سعادتها أو تعاستها!! / أين العيد؟!! / جيناتنا الحضارية!!
التعليق: حضرة الدكتور صادق، جزاكم الله خيرًا على ما تكتبونه وجزى الله مجانين خيرًا على نشره، ولكن اسمحوا لي بتعليق على مدونتكم هذه؛ المدونة كتوصيف لما يجري صحيحة 100%، ولكن إصلاح خلل النفوس الخبيثة لا يكون بنسف قاعدة قامت عليها الحياة، ولولاها لما استمرت!
القاعدة أقرها القرآن الكريم في أحكام وردت الآيات بها: منها إباحة أكل الميتة والخنزير عند الاضطرار حفاظًا على الحياة، قال تعالى: ((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [البقرة:173].
ومنها إباحة الصلاة مع الحركة لمن كان يقاتل في المعركة، قال تعالى: ((فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)) [النساء:103].
والأمثلة في القرآن والسنة لا تعد ولا تحصى في تطبيق هذه القاعدة، ولولاها لما تعلمنا الطب، ولا جاز لنا تشريح