لكل نص تأويل، وللتأويل تعليل، وللتعليل تعويل، والعيب ليس في التأويل، ولكن في الذين يعوّلون على التأويل ويتخذونها شرعة ومذهبا وطريقا منقطعا ومفازة متفردة في أصقاع المتاهات البعيدة.
النصوص وخصوصا الفكرية والدينية لا بد لها من التأويل المتوافق مع زمانها ومكانها ودرجات المواعي والمدارك والتجددات، فليس ما كان في زمن الآباء يصلح لزمن الأبناء، وليس ما يصلح في قارة ما يكون صالحا في قارة أخرى، فلكل مكان شروطه ولكل زمان ضوابطه، ولا يمكن الخلط والتوهم بثبات المعارف ومطلق التأويلات والتصورات والرؤى والتفاعلات.
وكل مؤوّل إنما يرى بمنظار ما فيه ولا يمكنه أن يكون متفقا تماما مع آخر، لأن ما يحتوية يتباين مع غيره كتباين بصمات الأصابع، فالمؤوّل يستعمل عقله ويجتهد في سعيه وتنمية وعيه، وما يقوله قبل ربع قرن قد لا يتوافق معه اليوم، ولو عاش أي مؤوّل وتعرض لمعارف غير زمانه، لأوّل بأسلوب آخر، لكنه اجتهد وفقا لما يمتلكه من أدوات التمحيص والفهم والتحليل.
والمشكلة تكمن في المعوّلين على التأويل، أي الذين عطّلوا عقولهم وبحثوا عن أسهل السبل فاتبعوا المؤولين، وتحوّلوا إلى ورقة بيضاء يكتب المؤوّل عليها ما يشاء.
والمجتمعات التي تنتشر فيها الأمية الشاملة تكون مؤهلة للوقوع ضحية في شِراك المؤوّلين، لأنها لا تعرف كيف توظف عقولها، ولا تمتلك مهارات معرفية وثقافية ذات قدرات إدراكية حضارية المنطلقات والمحتوى، وإنما تميل للتبعية والانغلاق والتدحرجية، وعدم الجد والاجتهاد، وتتهيب صعود الجبال، وتحاصرها الأوهام والتصورات المنحرفة، التي تأخذها إلى حيث تكون طُعاما لكل أكّالٍ سبيغ.
فالتأويل من ضرورات حياة أي فكرة أو عقيدة، ومن الطاقات اللازمة لتعصير أو عصرنة دورها، والحفاظ على قيمتها التواكبية وقدراتها التفاعلية، المتفقة وآليات عصرها ومرتكزات النماء والحضور الحيّ الوضاء. فكل عقيدة تريد البقاء والاستمرار يجب أن تمتلك المؤولين القادرين على تحرير نصوصها، وتأهيل أفكارها لتتوافق مع زمانها ومكانها. فالتأويل أوكسجين العقائد والأفكار والنظريات، وبفقدانه تفتقد مقومات الحياة، ويتمكن منها الاندثار ويتحقق فيها الغياب.
ومن عجائب ما يدور في الواقع المجتمعي أن العديد من ذوي المعارف، يهاجمون المؤوّلين ويتجاهلون المعوّلين، الذين لا يعرفون إلا اتبع ثم اتبع وتتبع، وينهمكون بالجهل اللغوي والمعرفي، ويؤهلون أنفسهم ليكونوا بضاعة رخيصة في مزادات الفئوية والتحزبية والطائفية والمذهبية، وغيرها من شرائع الضياع والبهتان، التي تكلفهم خسائر جسيمة وخطيرة.
بينما من واجبهم أن يتوجهوا للمعوّلين ويتقدموا بتأويلات معاصرة ذات قيمة حضارية، واقتدارية نافعة للحياة وآليات البناء وصناعة الجديد المتوجب للعزة والصلاح، ذلك أن التركيز على المؤوّل يزيد المعوّلين عليه تبعية وإصرارا على التمسك والانغلاق والعزلة في كينونة رؤاه، وما سطره في زمانه ومكانه، وبمداد ما احتواه.
واقرأ أيضاً:
الشعب سندان والكرسي مطرقة!! / الحج والفَج!! / عمى الأنهار أم الأبصار؟! / هجرنا وهاجرنا!!