يا رسول الله قد تاهتْ خطانا
فأتانا السوءُ تحدوهُ رؤانا
فهجرنا مُثلنا وقيمنا وأخلاقنا ومعاييرنا ومعاني الدين السامية، وهاجرنا إلى الظلم والتوحش والقسوة والفتك ببعضنا، وانغمسنا في الأنانية والجشع والغرور ، والتحاسد والتنابز بالألقاب، وتحقيق إرادة الغاب، ونكران دستور السماء، وقوانين المحبة والألفة والأخوّة والأمل والرجاء.
يا رسول الله يا فيضَ المعالي
يا أمينَ الكون أوْهمنا نُهانا
فهجرنا ديننا، بعد أن أمْعنا في جهله وتجاهل عقيدته ومبادئه، واتبعنا آفات الدجل والبهتان ، التي تحتال باسم الدين على البشر الفقير الجائع الحيران، فتمتصه بجشعها وكذبها وضلالها وأفكها المبين.
فهاجرنا إلى التبعية والذل والخنوع، والانصياع للظالمين المتغطرسين، الذين يدينون بالخناس والوسواس والشر الوخيم.
يا رسول الله طافتْ أنّتي
في رحابِ الكون أذكتْ حيرتي
لهجرنا القرآن فلا نعرف منه إلا رسمه، وابتعدنا عن الدين حتى صرنا لا ندرك غير اسمه، وأضحى الرب غير الرب والدين غير الدين ، وتشتت أبناء الأمة إلى فرق وجماعات ومذاهب وأحزاب، أنكرت أصلها وينبوع وجودها فتدّعي ما تدّعي، وتحسب كل واحدة منها بأنها تحتكر الصدق والحقيقة.
أما القرآن ، والمعبر الأمين عنه في الدنيا ، فأصبحا في رفوف الجهل والنسيان.
وبهذا فقد هاجرنا إلى قبَليتنا، وأصبحنا على ملّة جاهليتنا الأولى، كما وصفها جعفر الطيار في خطابه أمام ملك الحبشة قبل قرون.
أمة تشقى ودينٌ اشتكى
من أباطيلِ رجال الأمة
فالدين مذهب ، والعقيدة مذهب ، ولكل مذهب إمام أخرجه من آدميته وإنسانيته، وأضفى عليه ما لا يجوز أن يكون من صفات الإنسان.
" قل إنما أنا بشر مثلكم... " (الكهف 110 ، فصلت 6)،
و"قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا" (الإسراء 93)
لكننا أخرجنا البشر من بشريته ، وحولناه إلى غير حقيقته وإرادته ورؤيته .
فتبعثرنا وتحاورنا بالسيوف والحِراب، وآلات القتل والفتك المعاصرة.
وبهذا هاجرنا إلى ذلنا وضعفنا، وانحدرنا إلى الهاوية فتفرقنا وذهبت ريحنا.
أصبح الدين عدوا فاعلا
ومُدانا ومُدينا أهله
هجرنا الرحمة والرأفة والغيرة والحمية، والإيثار والشعور بالمسؤولية، فالواحد منا ينام متخما ، ومن حوله الجياع المتوجعون من العوز وقهر الزمان.
وصار الأثرياء فينا بلا شعور أو إحساس، يبذّرون ما عندهم، ويحسبونه حقهم، ولا يعرفون حق الله وعباده الأشقياء، بل راحوا يبطرون وينكرون ويبررون ضعف أحوال غيرهم لسوئهم، ويحسبونه غضبا من ربهم عليهم.
فهاجرنا إلى الكراهية والبغضاء والأحقاد، وطهّرنا قلوبنا من الرحمة والصَدقة، فأمسينا من أشد القساة على بعضنا.
وأمعنا في أنانيتنا وحبنا لرغباتنا ، وأذعنّا لأمارة السوء الفاعلة في أعماقنا العمياء.
ما عدو الدين إلا مسلمٌ
يجهل الإسلام يرعى رسمه
يدّعي علما وأبدى جهله
يتمادى في صراطٍ ضده
هجرنا المحبة والأمانة والوفاء، واجتهدنا في الغل والغي والحيف، والقسوة والانتقام والترويع والأحزان.
فصار المسلم عدو المسلم، يقتله شر قتلة، ويشرده وينتهك عرضه، ويأخذ ماله، ويذبحه كما تذبح الشاة، لكي يشفي غليل حقده وكراهيته له، وهو يسبّح باسم الله، ويصلي على طريقته ونهجه ومذهبه، الذي صار دينه وعقيدته وبلواه، وأنكر الدين وما يتصل به من المدارس وعاداها وأذل أهلها.
فأصبح المسلم يقتل المسلم بسبب اسمه، ولأنه يتصوره وفقا لما يملون عليه في مجالس غسل الأدمغة ، وتأهيل النفوس للهلاك.
ولهذا هاجرنا إلى العداوة ، وأصبحنا أشتاتا وفرقا مستضعفة ينال منها الطامع بالدين ، ويستثمرها للفتك به وهو يقول وذات نفسه " سعيد مَن اكتفى بغيره" من هؤلاء الجهلة الخانعين ، الذين فقدوا الغيرة على الدين.
أمة الإسلام تبا ما جرى
قد هزأنا بتراثِ الأمة
صارتِ الفتوى سلاحٌ فتنةٌ
وسبيلٌ لدمار العزة
منهل الإسلام يبقى نبعهُ
ولهُ الفرقانُ أصلُ الوحدة
قد هجر المسلم أخاه المسلم، وأنكر عليه دينه وحقه في الحياة والتفاعل، وأمسى المسلم مقهورا وشقيا في بلاد المسلمين.
فالمسلم يهاجر من بلاده ويأوي في غيرها ، خوفا من المسلم الذي أعلن عليه الحرب، بسبب اسمه ومذهبه، وغير ذلك من صغائر الأسباب ، ومفردات المصائب والآهات.
فأخذ المسلم يهاجر إلى بلاد غير مسلمة، لكي يتقي شر أخيه المسلم، وليرى الرحمة والأمن والأمان، فكيف سيكون وفيا لدينه، وقويما على شرعه بعد أن فتك به أهل دينه، وأعزه وأكرمه أهلُ دينٍ غير دينه.
فالمسلم يهاجر في بلده من منطقة مسلمة إلى أخرى، ويعيش في خيام كالزرائب تأنف منها المواشي، والمسلمون من حوله لا يمدونه بعون ولا يرحمونه ، ويطالبون منظمات غير إسلامية، ودول لا تعرف الإسلام أن تقوم برعايته ومساعدته، فكيف لا يخرج هذا المسلم من دينه، الذي لم يوفر له إلا رداءة الحال وسوء المآل.
أي أن المسلم يهجر دينه وينكره ، لأنه قد عانى أمرّ الأوقات في أحضان المسلمين من أبناء بلاده، وغيرهم من المسلمين الذين عاش مقهورا بينهم.
هل هجرنا قيما كانت لنا
وأتينا ما حواهُ طبعنا
ضَعُفَ الإسلامُ فيها وانْثنى
عندما الأغرابُ سادتْ أمرنا
دين يتكاثر فيه الفقراء والمساكين ، والمشردون والمهجرون والمعوزون والبائسون واليائسون ، الذين يتوسدون الطرقات ، ويعتاشون على المزابل والفضلات.
وبلداننا تمتلك أعظم الثروات ، وعندنا أكثر الفقراء والجياع والمحتاجين ، وأثرى الأغنياء الذين يعيشون في قصور مزينة بالآجر والأحجار الكريمة ، وعندهم الجزر والمنتجعات في أرجاء الدنيا ، ومن حولهم البؤساء والتعساء، الذين يريدونهم أن يتقربوا إليهم ، بتقبيل الأيادي والانحناء على أقدامهم ، لكي يتكرموا عليهم بقليل من فائض الثراء ، الذي سرقوه منهم ، واستعبدوهم لأنهم أخذوا حقوقهم وصادروا إرادتهم.
لكنهم لا يترددون في البذخ على ملذاتهم ومتعهم وملاهيهم الليلية.
وهم لا يعرفون كلمة "أتبرع" ، ويجهلون معنى "الزكاة" ، فلا يمنحون شيئا من أموالهم لإسعاد الآخرين ، ولا يبنون مرفقا حيويا لمعونة المعوزين.
إنما الدين سلوكٌ واضحٌ
ليس قولا وادعاءً كاذبا
كم مُراءٍ وبدينٍ قد بدى
وبفعلٍ كم تراه خائبا
وهناك عمائم تمتص من المتعبين جهدهم، وتحسب ذلك دَيْنا واجبا تضعه في خزائنها ، وتمنعه عن المحتاجين، ورأيت غيرنا ( من ملل أخرى) يعطي جزءا من ماله وفق الأصول، ويتم توثيقه وتوزيعه في المشاريع الخيرية، التي تكافح الفقر والجوع والجهل والمرض.
أما عندنا فالأموال المأخوذة من الناس الأشقياء ، تساهم في إفقارهم وتجهيلهم ومرضهم وجوعهم وضعفهم ، وتكون وسيلة لامتهانهم والنيل منهم.
قدوة الأعمال صاغت دربنا
وبها نحيا وتبقى مطلبا
قد ملكنا الأرض طرا حينما
صارت الأخلاق معنى ديننا
الدين ضد الدين ، والمسلم عدو الدين ، بعد أن سنّ سنة سيئة، فأصبح كل مَن لا يعرف الإسلام أو يحاربه ، يرى أنه ما يجرى في بلاد العرب وغيرها من بلدان الإسلام، فتراهم يصرحون في وسائل الإعلام إنه دين قتل وجريمة وقسوة وتوحش وامتهان، وفي العراق وسوريا وليبيا أوضح البرهان.
ما اعتصمنا برسول وإلهٍ واحدٍ
بل كذبنا وفضحنا فعلنا
يا رسول الله ما حاق بنا
قد جنيناه بسوءٍ حفّنا
هل نكرنا وادعينا ديننا
أمْ ترانا في خبايا وعينا
أهلنا جاعوا ومنا استغاثوا
ما عرفنا غير بؤسٍ حولنا
فلماذا قد سقطنا كلنا
في مهاوي الضيم ننعى بعضنا
هاجر نبينا الكريم من أجل القيم والمبادئ السامية ، ولإذكاء أنوار الرسالة التي مضت تتنزل على مدى ثلاثة عشر عاما في مكة.
وبعد أن ارتقت العقول والنفوس والأرواح إليها ، وتشكلت الأفكار والرؤى على منارها وهداها، وترسخت عقيدتها ، وتفجرت ينابيع إيمانها ، ونضجت عوامل صيرورتها وانبثاقها، وتجليها في آفاق الأرض وقلوب الإنسانية الحية.
فهاجر هجرة ذات معاني حضارية وروحية ونضالية ووطنية ، تعبر عن قوة المبادئ وضرورات السعي الخلاق لتأكيدها ، وتجسيدها بالفعل الممثل لها والنابع من عناصرها ومفردات كينونتها.
هاجر الرسول الكريم إلى الآفاق المنورة ، ومرابع الانطلاق إلى الدنيا ، حاملا أرقى القيم والمعاني والمبادئ ، التي كان يسعى لمنحها للبشرية جمعاء.
وهجر كل ما لا يساهم في تحقيقها والارتقاء بالإنسانية إلى آفاق الرفعة والسمو ، الذي نطقت به كلمات السماء على لسان الروح الأمين.
وبقي قلبه متعلقا بوطنه الأم مكة المكرمة حتى بشره الله بالفتح المبين.
لكننا وبعد هذه القرون المتوالية ، كأننا أصبحنا نسير بطريق معاكس ، فنهاجر إلى ما هَجره نبينا ، ونهجر ما هاجر من أجله وإليه.
وفي هذا تكمن مأساتنا الكبرى ، وتتضح الأجوبة على العديد من أسئلتنا ، وأسباب حيرتنا وتداعينا وضعفنا وضياعنا.
فإلى أين نهاجر وماذا هجرنا؟!!
لنسأل أنفسنا لكي نقومها ونحقق المنفعة للمجتمع والإنسانية كافة.
لغة القرآن عانت واشتكت
كم جهلناها وجئنا غيرها
أيها الإنسان حدّث عاليا
كيف للإسلام يغدو ضدها
دين حبٍ وسلام عادل
واحتفاءٍ بجميلٍ ودّها
ولا بد من العودة إلى القرآن واللغة ، لتحقيق الدور الحضاري المعاصر، وتأكيد المعاني الأصيلة ، التي صنعت أنوار الحضارة المتواصلة في الأرض.
فانهضي هيا وثوري أمتي
واطلقي الإسلام نبعا صافيا
لا تخافي لا تهوني وانتخي
شعلة الإيمان عاشت حاديا
ثورة الإسلام شعّتْ نورها
وبها الأحرار أذكوا آتيا
فكيف جعلنا النور نارا، والرحمة والمحبة عارا؟!!
حتى أضحى عامنا:
عام تهجيرٍ وهجرٍ مؤسفٍ
وخطايا وأثيمٍ مقرفٍ
ومشينٍ ومهينٍ مُكسفٍ
وظلومٍ وحَقودٍ مُسرفٍ
واقرأ أيضاً:
الحج والفَج!! / عمى الأنهار أم الأبصار؟! / التأويل والتعويل!! / الأمانة والهجرة!!