أمضى النبي الكريم في مكة ثلاثة وخمسين عاما، وعشرة أعوامٍ في المدينة التي هاجر إليها في مثل هذه الأيام، وقبل أن يشرع بهجرته أوصى علياً بردّ الودائع لأهلها.
وكما هو معروف أن النبي الكريم قد عاش ثلاثة عشر عاما بين قومه وهمّ ضدّه، لأنهم كانوا يحسبونه قد فرّق بين الأب وابنه والأخ وأخيه والزوج وزوجته، بدعوته للدين الجديد، وزعزعته لأركان المعتقدات في مكة، مما ألّب عليه قادة المجتمع فحاربوه بما يستطيعونه من الأساليب، ومع ذلك فإن الناس كانت تأتمنه وتودع أماناتها عنده، فأوصى بإعادتها لأصحابها.
وفي هذا السلوك ترجمة أخلاقية راقية تتلخص في أن الأمانة بكل ما تعنيه خُلق علينا تجسيده حتى مع الذين ضدنا، فالأمانات التي أوصى النبي الكريم بردها ليست لمسلمين وإنما لأناس من قريش، وكان بمقدوره أن يأخذها وهو في حاجة إليها، لكنه ترجم قيمة سلوكية ذات منطلقات إنسانية حضارية.
فالهجرة مقرونة بالأمانة، وتعبير على أن الوجود أمانة:
القرآن أمانة
الدين أمانة
الحياة أمانة
الأرض أمانة
وما حولنا وفينا أمانة
فهل نحن أهلٌّ لحمل الأمانة؟
فالإنسان مؤتمن على نفسه وبدنه وسلوكه وذاته وموضوعه، وما يحيط به من المخلوقات كافة!!
فأين نحن من أمانة نبينا، وقيمة الأمانة بلا معنى في مجتمعاتنا؟!
"يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" الأنفال 27
"والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون..." المعارج 32
"إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" النساء 58
"فليؤدِّ الذي ائتمن أمانته وليتقِ الله ربّه" البقرة 283
والأمانة والخيانة لا يتوافقان، وهناك الكثير من الأقوال والحِكم التي تشير إلى ذلك، وتؤكد أن خيانة الأمانة مفتاح كل خيانة.
"أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك"
"وارْعَ الأمانة، والخيانة فاجتنبْ"
"واعدلْ ولا تظلم يَطيب المكسَبُ"
فالحديث عن الهجرة والعام الهجري الجديد عليه أن يوقظ فينا معاني الأمانة الإنسانية، ويُخرجنا من ظلمات البهتان إلى أنوار الدين العمل، ويوقد في وعينا إرادة التفاعل الرحيم المبني على روح الأمانة وتأديتها بإخلاص وصدق ونكران ذات، فكل ما يتصل بنا أمانة، ولو تعلمنا مبادئ وأصول تأدية الأمانة لما حصل الذي حصل في ديارنا المنكوبة بجهلنا.
فالوطن أمانة بثرواته وأهله وما فيه وعليه، والمسؤولية أمانة، والسلطة أمانة، والقيادة أمانة، فهل نؤدي الأمانات إلى أهلها، أم أننا نخادعهم وأنفسنا، ونسرقهم ونسرق أنفسنا، ونسفه أحلامهم وأحلامنا.
هاجر الصادق الأمين بعد أن أوصى بتأدية الأمانة، وهو يحمل أمانة كبرى لو أنزلت على الجبال لتصدّعت، فأدّاها للبشرية بأصدق وأنبل ما يكون عليه الأداء.
فهل سنعرف خلق الأمانة ودورها في المجتمع الإنساني لكي يكون عندنا دين قويم رحيم؟
فمَن لا يعرف خُلق الأمانة لا يعرف أي دين!!
واقرأ أيضاً:
عمى الأنهار أم الأبصار؟! / التأويل والتعويل!! / هجرنا وهاجرنا!! / القوة تُصنَع ولا تُستورد!!