الواقع العربي يخضع لآلية التصنيع والاستهلاك، فما يجري فيه من تصنيع غيره واستهلاك نفسه، فالأحداث الجارية أو العاصفة بأركانه مصنّعة، وعليه أن يكون مستهلكا لها ومتفاعلا معها، ومتناسيا لمنشئها ومنطلقات بدئها، ومَن الذي أوجدها ورعاها واستثمر فيها.
ولهذا تجدنا أمام مواقف ردود الأفعال العشوائية المتدفقة على ما يجري ويتحقق، في مكان وزمان معفر بالغفلة والتلاحي والانفعال المضطرم الأجاج، المكتسح لمعالم الوجود العربي بأسره. وكل مأساة تبدأ بخطوة تساهم بها القوى المتسلطة وتمضي في هيجانها الانفعالي، وتأجيجها لمضطرم المواقف المصنّعة لإتلاف وجودها الوطني والإنساني، وتحويلها إلى دمية وتابع، وموجود مغفل وضائع، ومرفوض من شعبه وغيره.
فلو ألقينا نظرة على ما يدور في الدول العربية، لتبين أن أحداثها مصنعة وتواصلها عبارة عن ردود أفعال انعكاسية استهلاكية لا تفقه بالحلول والمخارج، وتمعن بتطوير المواقف وتعضيل المشاكل، والانحشار في زوايا ضيقة ذات مختنقات وخيارات مميتة ماحقة. فما أن يُصنع موقف حتى تهب جموع المستهلكين المغرر بهم للصعود إلى هاويته، والتعاطي معه على أنه إما حياة أو موت، ولا توسط بينهما، فتجد البلاد قد دخلت في أنفاق الهلاك والإهلاك، والتردي الفتاك في قيعان الدواجي والويلات العظام.
ولا يشذ بلد عربي عن هذا التفاعل المتوالي المدمر للذات والموضوع، والمُهجِّر للشعب والمخرب للمعاني والقيم والأخلاق والاقتصاد، حتى أصبحت نسبة كبيرة من المجتمع العربي تهيم على وجهها في عثرات أرض الله، التي ضاقت عليهم وما رحبت.
إن هذه النمطية التفاعلية القاتلة التي تتكرر في مجتمعاتنا تمنح الآخرين المسوغات، والمعززات لإنتاج العديد من المواقف والحالات وتصديرها، ما دام التسويق ممتازا والأرباح فائقة، ذلك أن الذي يحقق أهدافه بلا جهد أو خسائر، إنما ينجز نصرا كبيرا وعظيما.
ومن دواعي الخسران أن لا تستيقظ القِوى وتستوعب ما يُصدّر إليها من مكوّنات تصارعية، للفتك بكيانها وتدمير هويتها ومحق ملامحها، وما يشير إليها من الدلالات والمميزات الحضارية. بل أن العديد منها وجدت فيها فرصتها للبقاء في الحكم والاستئثار بالسلطة والتمادي بالفساد، لأن ما يجري يتستر على ما تقوم به من جرائم وتحصده من غنائم مادية، وسرقات هائلة لثروات بلدانها، التي تودعها في الدول الأخرى لتعزيز اقتصادها وتوفير الحماية لها.
وهكذا فإن الخطابات والكتابات محشوة بالأفكار الاستهلاكية، الضرورية للوصول إلى أقصى درجات التدمير والتخريب، وتأكيد الاستثمار الأوسع بالمستورد من آليات التدهور والانقراض، والتحطم في بيداء الغياب والنسيان الأبيد.
تُرى متى سيتوقف استيرادنا لمصائبنا، ومتى سنمتنع عن استهلاك بضائع السوء والبغضاء الوافدة إلينا من كل حدب وصوب؟!!
واقرأ أيضاً:
الأمانة والهجرة!! / القوة تُصنَع ولا تُستورد!! / مجتمعات شمعية!! / وحدة التنوع والاختلاف!!