كتبت مقالة عن قيمة الجمال في حياتنا قبل أعوام وقد ظهرت في العديد من المواقع والصحف العراقية والعربية، فقرأت الكثير من التعليقات الإيجابية عليها. وفي أحد المواقع وجدت أحد الأخوة القراء ينسفها نسفا ويتحدث عن الجمال الأفلاطوني، وقد أغرق في استعاراته من الكتابات الأفلاطونية، وحسبَ الجمال هو ذاك وما غيره لا يُحسب جمالا أو يقترب منه بشيء. وقد راعني هذا الاقتراب، ونبهني إلى منهج تفكيرنا العام الذي نعيشه يوميا، ونعبّر عنه في تفاعلاتنا مع بعضنا.
ومفاد منهجنا الذي أمضينا حياتنا عليه أننا ننكر الواقع ونقلل من قيمته، وننأى بأنفسنا وأفكارنا ورؤانا إلى الفنتازيا، بعيدا عن المجابهة الخلاقة له وحل مشاكله بأسلوب علمي، وتعامل عقلاني جماعي مفيد. مما أدى بنا إلى ترحيل المشاكل من جيل إلى جيل، وتراكمها في دروب مسيرتنا لنتعثر بها دوما، ونفاقمها ولا نعرف لها مخرجا أو حلا.
فواقعنا لا نواجهه ونتجاهله ولا نعرفه وتلك مصيبة حياتنا، ومعضلة وجودنا المعاصر، فالأمم واجهت واقعها وخرجت منه بحلول مفيدة لمشاكلها، وبآليات تفكير جديد، ووضعت أسس التفكير المتقدم الذي مضت عليه أجيالها، وحققت قفزات كبيرة في الحياة. بينما نحن نهرب إلى الفنتازيا، والتأريخ الذي ما هضمنا درسا من دروسه، ولا اعتبرنا به مثلما تعتبر الأمم والشعوب بماضيها.
وعندما نتصدى لموضوع الجمال في حياتنا وضرورته لتهذيب سلوكنا وبناء مستقبلنا، لا نركن إلى مفردات الواقع وأدوات الممكن، بل يكون اقترابنا منفعلا ومشحونا بالعواطف السلبية الفائقة القدرة على الدمار والخراب، لأنها بلا بوصلة تحدد مسارها وتحقق غايتها. فحينما نرى الأزبال مركونة في شوارعنا، لا نفكر بوسيلة للخلاص منها، وبناء ميكانيكية عمل يومي تؤدي إلى إزالتها بأسلوب منظم، يحافظ على نظافة الشارع والمحلة والمدينة.
بل نلجأ إلى نكرانها واستلطافها وإسقاط أسباب ذلك على الحكومة والدولة، وكأننا لا شأن لنا بها ولا هي ستتسبب بإصابتنا بالأمراض، وتكون مواطنَ لتكاثر المخلوقات الضارة بالصحة العامة، فنحسب الجمال شيئا آخر ومنهجا بعيدا عن قدرتنا في التحقيق الواقعي، ولهذا نلجأ إلى الفنتازيا الكاذبة، التي تذيقنا علقم الضياع والخسران.
فهل من المفيد أن نزيل الأزبال أم أن نتحدث عن الجمال الأفلاطوني؟
وهل من المفيد لنا أن نسعى جميعا إلى تربية أذواقنا، وتحقيق مساحة طيبة من تقدير الجمال في محيطنا وسلوكنا مع بعضنا، بدلا من التغني بالكلمات والتمنيات.
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
أليس القبح منكرا، والقبح يشمل جميع مناحي الحياة، فالسلوك قد يكون قبيحا، والطلعة والبيت والشارع والمدينة، وكل بقعة في محيطنا وما يصدر عنا.
فمن الحضارة والتقدم أن يكون أسلوبنا جميلا في تعاملنا مع بعضنا وفي اختيارنا لكلماتنا، ومن المهم أن يكون مظهرنا جميلا، وطلعتنا بهية بهيجة لأنها تمنح السرور للآخرين، وما أجمل أن نكون في غاية اللطافة والظرافة مع بعضنا البعض.
ولماذا لا نهتدي بالمعاني الكبيرة في الحديث النبوي التي تحثنا على رفض المنكر أيا كان نوعه، ولماذا لا ندين القبيح ونغيره بالعمل إذا استطعنا وفي القول أيضا، أما موضوع القلب فأن فيه إشارة تربوية كبيرة تساهم في تربية الشخص لنفسه، لأنها تؤكد فيه قيمة وعي المنكر وضرره، فيتجنب فعله ويأتي بما هو صالح وجميل.
ولو أن كل واحد منا رفض القبح في قلبه وتأمله بعقله، لأثر ذلك على سلوكه وجعله يبدو جميلا فيما يبدر منه.
"إن الله جميل ويحب الجمال" فأين نحن من هذه المعاني الحضارية والأفكار المعاصرة، التي ترفع الإنسان إلى مرتبته وتجعل منه مخلوقا منيرا في الأرض.
ومن غرائب وضعنا العام أننا قد عجزنا عن توفير الحمامات والمرافق الصحية النظيفة والجميلة. ولا زلنا نمتلك أقبح وأوسخ المرافق الصحية في الدنيا، وبمقارنة بسيطة بين دولنا والجارة تركيا، سيستغرب الزائر من جمال ونظافة المرافق الصحية، ذلك إن الأخوة الأتراك يقدرون الجمال، بينما نحن نبخس قيمته.
وقد يتصور البعض بأني أخلط ما بين النظافة والجمال، لكني أرى النظافة والجمال شيئا واحدا، لأن الجميل نظيف والنظيف جميل.
وعليه فإننا بحاجة إلى ملامسة واعية وعملية جادة مع واقعنا، ولا نحتاج إلى تفاعلات خيالية وذات طاقات فنتازيا عالية، وهذا ينطبق على شؤون حياتنا بأسرها، فترانا في عالم السياسة لم نتعظ من تأريخنا ولم نتعلم، مثلما فعل الصينيون بالاستفادة من تراث حكمائهم وتسخيره لبناء بلادهم، وقد نجحوا أعظم نجاح، وكان من الأحرى بنا أن نفوز على الدنيا بسلوكنا لثراء ما عندنا من الحِكم والتجارب، لكننا أحرقناها في نيران جهلنا وتجاهلنا ومطارداتنا للسراب.
واقرأ أيضاً:
قواعد الافتراس ثابتة!! / التكريس السلبي!! / التراكمية الغائبة والتبعثر المستقيد!! / المُقسّم يتقسّم!!