التغيير ليس سرابا أو حُلما من أحلام اليقظة، وإنما ديناميكية سلوكية تتحقق في النفس أولا، وتتجسد بالسلوك المترجم للإرادة الفاعلة في أعماق البشر. فالتغيير الذاتي يحقق التغيير الموضوعي، وما في البشر ينعكس في محيطه، فالواقع مرآة آهليه، ومسلة أفكارهم وتطلعاتهم، ولا يمكن فصل الذات عن الموضوع، أو الفكرة عن الواقع.
ومَن يريد التغيير الحقيقي عليه أن يغير نفسه أولا، ومن يريد التغبير فأنه يُخادع نفسه ويَسخر من ذاته، ولا يقدم شيئا جديدا، وإنما مُزيفا ومتصلا بما فيه وما ينتمي إليه ويتحقق بربوع أعماقه، والذي يمضي على نهج يجني منه حوافز ومُعززات، لا يمكنه أن يغادره إلى نهج آخر يزدحم بالمضادات والمحبطات والتحديات.
والذين يتأملون خيرا من إناء لم يتغير ما فيه، يعيشون في وهم ويُخادعون أنفسهم، وينكرون بديهيات ومُسلّمات سلوكية متعارف عليها، وتتحكم بما يفعله البشر. ومن الصعب أن تجد بشرا يتمكن من الانتصار على نفسه، والتعبير عن مفاهيم تتعارض مع ما نشأ عليه وتربي في ظلاله، ووصل إلى ما وصل إليه بسببه، ولم ينجز ذلك إلا ذوي العزم والإرادات الإصلاحية الخالدة المنيرة في التأريخ.
ولهذا فأن العجب والاستغراب يحيط الذين يتحدثون عن فشل فلان وفلان، وعجزه عن القيام بما يجب أن يقوم به، وأن يقاتل الفساد الذي أوجده والحزب الذي أهّله، والأفكار التي تورط فيها معظم حياته، وآمن بها بانفعالية مطلقة ووهمية فائقة لا تقبل المواجهة والزعزعة.
ومن حقائق الفئات والأحزاب أنها تلد رموزها ذات الأوهام العقائدية الراسخة، التي لا يمكنها أن تقبل التعارض والتحاجج أو الخضوع للدليل والبرهان، وإنما تكون ذات مؤهلات عاطفية عالية الدرجة والغليان، تحرق مَن يقترب إليها أو يأتيها ببيان ومُسّلمة ذات عَيان.
ومَن يحسب أنه يمتلك الحقيقة وحسب، وغيره مرجوم بالضلال والبهتان، لا يمكنه أن يفعل إلا ما يعبر عمّا يحتويه من رؤى الأنانية والقوة والقدرة على التحكم بمصير الآخرين، الذين وفقا لتصوراته يستهدفون عرشه وكرسيه وما يمت بصلة إليه. ولهذا فأن التغيير الذي يتردد في آفاق الصفحات ووسائل الإعلام، يبدو وكأنه الهذيان، أو حث للتراب في العيون، والمساهمة في زيادة الإغبار وإشاعة الآمال الكاذبة، والتفاعلات الغائبة عن الواقع المعاش، ووسيلة لتخدير الناس، وحقنهم بأفيون الامتهان اللذيذ.
فما هي مرتكزات التغيير، وما هي المنطلقات العلمية والعملية اللازمة لإنجازه، وماذا نريد أن نغير وكيف نغير، وبأي الوسائل، وماذا نريد أن نحقق من التغيير وما هي مستوياته، وعوامله وعناصره ومفرداته، ومَن الذي يقوم به، وكيف نبدأ التغيير؟؟؟
تساؤلات توجب البحث للوصول إلى أجوبتها، قبل التوهم بأن التغيير مجرد كلمات وتظاهرات وتصريحات وتنقلات ومخادعات، وآليات ترسيخ لما هو قائم بأساليب أخرى تؤدي لذات النتيجة!!
فهل هذا تغيير أم تغبير؟!!
واقرأ أيضاً:
الجمال والاقتراب الأفلاطوني!! / المُقسّم يتقسّم!! / وحدة المعنى الإنساني!! / الأب الوطني ضرورة وطنية!!