من أهم العوامل التي أسهمت بتغييب الإنسان فينا هي، النظام النشأوي العربي، ومرتكزات التربية التفريغية المُبرمجة بمناهجها العمياوية، وآلياتتها الإعثارية، وأساليبها القمعية الاقتلاعية، الساعية للنيل من العقل والروح والنفس، والمعززة لتراكمات خسرانية إحباطية ذات إرادات تدميرية فائقة، ومدعومة من قبل القدرات صاحبة التطلعات الافتراسية، والنزعات الامتلاكية الاستحواذية الرابضة على صدور الأجيال، والهادفة لإزهاق روح المنطلقات المؤهَلة لصناعة الحياة الأفضل، المتفقة مع جوهر حقيقة الإنسان الموجود في وعاء الأرض الحضاري الأزلي الانبثاقات والتدفقات النابضة الرائدة الأصيلة.
هذه المخالب الشرسة والهجمات، وتوفر الاستعدادات التواطوئية المقنّعة بالتديّن المسيس والعقائد الفكرية والحزبية، المصبوبة في قوالب الامتهانات والعمل بالوكالات، لخلق حالة الوصاية والاستعباد الإتلافي الإزهاقي، الذي يدفع بالموجودات للاختناق بما تأسّن في أوعية وجودها الراكدة، والتي يعوم على سطحها النفط المانع لأوكسجين المعاصرة والتواصل والإبصار والوعي والإدراك. تلك المحنة العربية المهولة الصادعة، هي التي أودت بحياة الإنسان المكنوز في طيات وجودنا الأدجى، ودياجير عوالمنا المتكهفة المزدحمة بالأفكار المأسورة بأقبية اليأس والخياب.
ويبقى الإنسان هو العنوان، وبانتفائه، لا أمن ولا سلام، فحالما تضيع قيمة الإنسان، تتوارد إلى مواضعه ومرابعه النوازع الشرانية وتتحقق التفاعلات التدميرية الشاملة، بتوجهاتها العدوانية التخريبية الدامية. وكلّ ما في الوجود هدفه الإنسان، والإنسان بطبعه يقهر الإنسان!!
وأمتنا أمة الإنسان المقهور بما فيه وحوله وعنده، إنسان مقهور بأرضه ومائه وطعامه وحاجاته، وبنفطه وزرعه، وبأنظمة حكمه وأحزابه، بل ومقتول بدينه وعقائده، وبعروبته ووحدته وهويته ولغته، وبوطنيته وبأسمى المثل والقيم والأخلاق التي يتم تفريغه منها، وتحويله إلى قِشة في مهب أعاصير الالتهامات الحضارية الفتاكة. ولا يمكن للأمة أن تتواصل بفقدان قيمة الإنسان، ولا بد أن يسترد إنسانها قيمته ودوره الحضاري، ويشارك الدنيا مسيرة التواصل الإيجابي الرشيد.
ولكي يستعيد الإنسان قيمته، تحتاج الأمة لقادح حضاري، يستنهض ذلك الإنسان ويؤهله نفسيا وفكريا وروحيا وإدراكيا، ويعيد له شخصيته وهويته ومعناه، وهذا القادح قائد منوّر ينهض من أبناء الأمة، ليعيدها إلى جادة الصواب ويوحّد إرادتها ويعبّد مسارات مستقبلها.
قد يبدو هذا الكلام غريبا أو ضرب خيال، بسبب أهوال اليأس الجاثمة على وعي الأمة، لكن التأريخ يرشدنا ويقدم لنا الأمثلة الواضحة على أن الأمة تستعيد ذاتها بقدحة قائد متوثب يستلهمها، ويعبّر عن وعيها وإرادتها بعزيمة وإصرار وتوثب مطلق. فالأمة انسحقت ووصلت إلى أقسى قيعان اليأس والقنوط والإبلاس، أيام احتراق بغداد عام 1258 على يد هولاكو، لكن قائدا واحدا من مصر، تحدى اليأس والهزيمة وقرر أن ينتصر على أمواج التوحش والإهلاك، فتقدم مؤمنا بإنسان الأمة وعزّته وكبريائه ورسالته، فقصم ظهر الشر في معركة "عين جالوت".
ورغم شدّة الأحوال وقساوة العواصف الإحباطية التنكيلية، وزيف الإعلام وكثافة الحرب النفسية، وحماسة ماكنة صناعة المواقف والآراء، ومحطات الزعزعة والتيئيس، فإن الإنسان العربي حي وقوي، ولن تخمد إرادته أو ينكسر طود كينونته، وستلد الأمة مشاعلها وتترجم جوهرها الحضاري، وتتماسك وتستوعب دروسها، وستنطلق براعمها التواقة لحياة إنسانية منوّرة بنفحات المحبة والإيمان بالأفضل السعيد.
وتلك حقيقة صيروةٍ متوهجة لا تنظفئ، مهما تَحَنْدَسَتِ الأيام!!
واقرأ أيضاً:
التغيير والتغبير!! / الأب الوطني ضرورة وطنية!! / التأريخويّه!! / استقلال واستعلال!!