من قوانين البقاء وبديهيات التحدي أن الأحياء عندما تسقط في حفرة فأنها لا تحفر، وإنما تجتهد في ابتكار الوسائل والآليات اللازمة للخروج من تلك الحفرة. والساقط في الحفرة قد يكون فردا، مجموعة، فئة، حزبا، أو مجتمعا وربما شعبا وأمةً. ففي حالة الصراع القائم فوق التراب، كل حالة مؤهلة للسقوط في حفرة، إذا فقدت قدرات الحذر وأسباب الوقاية من التحول إلى ضحية للخداع والتضليل والدفع باتجاه الحفرة، والكثير من الحفر تكون مموهة وغير واضحة فيدوس عليها البشر حتى يقع فيها، فيصبح هدفا لتساقط الشوائن عليه.
ومعظمنا لعب هذه اللعبة في صباه، حيث كنا نحفر حفرةً صغيرةً نملؤها بالماء ونغطيها بالأغصان وجريد النخيل وندثرها بالتراب فنخفيها، ونأخذ أحد الصبية الذي لا يعلم بها ونسير معه باتجاهها، وقد انسجم معنا في الكلام وغيره من التفاعلات التي تلهيه وتقلل انتباهه، ونمضي به إلى حيث يدوس على الحفرة المموهة فتغوص قدمه فيها، ويتعالى ضحكنا ويتصاعد غضبه، وتحصل المشاجرات بيننا والبعض من الصبية كان يضحك معنا، ويدفعنا بأسلوبه إلى مشاركته السقوط في الحفرة.
هذه كانت لعبة صبيةٍ على تراب الوطن، مثل غيرها من اللعب والتفاعلات التي نحمل عنها ذكريات جميلة وطيبة. ومنطوق اللعبة وفكرتها هو أحد قوانين امتلاك الشعوب والأمم والسيطرة على الأوطان، وذلك بأن يتم إسقاطها في حفرة، كما كنا نوقع بعضنا في الحفر عندما كنا نلعب، وكذلك الدول القوية تلعب والساسة يلعبون، وكم منهم سقط في الحفر وما تعلم الخروج منها أو إسقاط دافعه إليها فيها.
وقد سقطت بعض البلدان في حفرة وحفرة، حُفِرَت لها منذ عدة عقود، وأمعن أبناؤها بحفرها، وتواصلوا في الحفر، على غير طبائع الأمور وبديهيات الأصول وإرادات البقاء والحصول. وساهمت الكراسي بما أوتيت من طاقات بالاجتهاد بالحفر والغوص العميق في قاع الحُفر، حتى صار الوطن الساقط هدفا محصورا في زاوية التدمير والخراب والضياع والفناء.
وبعد أن تم الإطباق على الحفرة وامتلاك الشعب، تولدت في داخل الحفرة قِوى متنوعة أخذت تعمل بجد ونشاط وعدوانية، واندفاع مهووس بالحفر المتواصل والشديد للحفرة، حتى ازداد الظلام وتمكن التراب من دفن الأحياء، والغبار من منع وضوح الرؤية، واختنق الناس وهم لا يزالون يحفرون ولا يتعبون.
وأصبح من الصعب على الذي يحلم بالخروج من الحفرة أن يفكر في صناعة سُلّم، أو أن يرشد الناس إلى الطريق الصحيح للخلاص من مأزق الحفرة، فالجميع لا يمكنه أن يرى بسبب ضغط الحفرة وقوانينها وتفاعلاتها، التي تعمي الأبصار وتقتل العقل والإدراك والتصور المعقول.
ولهذا نرى أن مجتمع الوطن الساقط في الحفرة قد أصبح سهل الافتراس، وأسيرا للقوى التي أسقطته فيها، ولا يعرف كيف يعيش خارجها لإصابته بحالة التقوقع في الحفرة، واستسلامه لإرادة التآكل فيها، والتمتع بقوانينها التي تعبّر عن الوجود الراكد المتعفن في ذات المكان.
وهكذا يتحول الوطن إلى مستنقع، تتصارع القِوى فيه والأحداث تتعاظم وتتأكد، والواقعون في الحفرة يتساقطون في أية حفرة يحفرونها لبعضهم فيها، فلا خيار إلا للوقوع. ولكي يتحرر أي مجتمع من أسْر الحفرة التي وقعَ فيها، عليه أن يجدّ ويجتهد في صناعة السلالم التي تنقذه من قبضتها التدميرية القاضية.
تُرى لماذا لا يتوقف الحَفر في الحُفرة؟!!
واقرأ أيضاً:
محمّد!! / مناهج الأسلمة ونوازع الأثلمة!! / الأقصدة والمَعصدة!! / عام ُانطلاقٍ وانعتاقٍ!!