يقول أحد علماء التاريخ في حديثه عن الربيع الأوربي عام 1848: وصل التاريخ إلى نقطة تحول ولكنه فشل في التحول. وحدثت حركات ثورية أخرى في أوربا عام 1968 أيضاً وكان رد فعل التيار المحافظ قويا في البداية وتلاشى بعد أعوام. التحول الثوري في أي بقعة من بقاع العالم لا تحدث بعد موجة طقس واحدة وإنما تتطلب تغيير المناخ برمته.
مضت خمسة أعوام على الربيع العربي ومن النادر أن تسمع احداً يحتفل به وهناك من ينعته الشتاء العربي أو الخريف العربي. شاركت في الربيع العربي ستة أقطار وخرجت مظاهرات سلمية تطالب برحيل قادة لا يشعر الشعب نحوهم إلا بالكراهية. ابتهج العالم الغربي بأن من يتكلم العربية لا يختلف عن غيره من البشر وسينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة.
لم يخب ظن العالم بهذه الظاهرة بقدر شعور الشعوب العربية نفسها بالإحباط واليأس وبدأت قوافل الهجرة من الأراضي العربية إلى الأراضي الأوروبية. كان الحديث قبل خمسة أعوام عن مظاهرات مليونية واليوم ما يشغل العالم هو الهجرة المليونية من أرض العرب إلى أرض أوربا وربما هناك من يحب أن يقول من أرض الإسلام إلى أرض الكفار. أصبحت أعلام القاعدة وداعش أكثر وضوحاً وانتشارا من جميع أعلام الأقطار العربية.
هناك دولة ديمقراطية واحدة الآن في تونس وتعداد سكانها يوم قام الربيع العربي 10 ملايين. أما اليمن وليبيا وسوريا (تعداد السكان الكلي أكثر من 50 مليون) فهي دول فاشلة لا وجود لحكومة أو سلطة فيها. أما مصر (84 مليون) والبحرين (مليون نسمة) فهي لم تتغير. حساب الأرقام يقول لنا بأن درجة نجاح الربيع العربي لا تزيد على 3%. ولكن حين يفشل الإنسان في اجتياز امتحان ما فعليه مراجعة نفسه واستيعاب نقاط الضعف فيه والعمل على تجاوزها؟
رغم محاولة البعض التمسك بالتعاليم العربية الأبدية بأن طغيان الغرب وجبروته ومؤامرات الصهيونية العالمية هي وراء الأمراض العربية المزمنة، إلا أن الحقيقة عكس ذلك والحقيقة هي أن المواطن العربي ضاق ذرعاً بهذه النصائح. فقد تعلمنا ماذا حصل في العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية وتقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام ولا وجود فعلي للسلطة المركزية في اثنين منها والثالث تحت رحمة ميليشيات تتميز بتعدد الولاء إلى من يمولها ومن ينتمي إليها فقط. تعلمنا أيضاً ماذا حدث في سوريا بسبب تردد الغرب في التدخل عسكريا وترك القطر تحت رحمة القوى الإقليمية العظمى.
ولكن الدرس الأكبر الذي تعلمه المواطن العربي هو خرافة الوحدة العربية والروابط بين مختلف الأقطار العربية. الروابط تكون قوية بين مختلف الأطراف القوية حضاريا وثقافيا واقتصاديا ومتى كانت الأطراف تفتقر إلى مصادر القوة هذه فلا توجد روابط بينها. الحقيقة هي أن الوطن العربي الأكبر خرافة ووهم يحتاج أكثر من شعارات وهتافات لعلاجه.
ما هو البديل؟
ما يبدو للعيان هو أن الإسلام السياسي هو الأقوى والبديل لجميع الحركات السياسية الأخرى ولا يشمل ذلك العالم العربي فحسب ولكن العالم الإسلامي من تركيا إلى أفغانستان. هناك طالبان التي تنادي بإقليم هلمند قبل أن تفاوض السلطة المركزية وبوكو حرام تعبث بشمال نيجيريا والشباب في الصومال وداعش في سوريا والعراق وليبيا. هذا التيار يتمسك بأيدلوجية إسلامية تطالب بتطبيق ما يسمى بالشريعة حرفياً.
لا تذكر اسم الشريعة ولا تعلم ما هو منهجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
وهناك نوع آخر من الإسلام السياسي يتمثل في النظام الإيراني الذي يتدخل في شؤون العالم العربي وهناك رجب طيب أردوغان الذي يسعى لفرض دكتاتورية جديدة في إطار الخلافة الإسلامية. هذا التيار أقل وحشية من الأول وانتشر الوهام العربي بأنه البديل الجيد لهم.
ولكن التاريخ القديم والحديث يكشف بأن التيار الأول والثاني لا أمل لهم في النجاح. الحديث عن الشريعة والمناداة بها شيء وتذوقها والعيش تحت سطوتها شيء آخر وتنقل الإنسان بعربة وقت فضائية من الألفية الثالثة إلى الألفية الأولى في التاريخ. الهجرة من صوماليا وسوريا وليبيا خير دليل على ذلك وأصبحت عملية تجارية لا تنتهي ولا تفسير لها سوى الرعب من الحياة تحت ظلال الشريعة.
البديل الثاني ليس أفضل من الأول. الغالبية العظمى من الشعب الإيراني لا تؤيد دولة الفقيه. صوتت مصر بأقدامها ضد الإخوان خلال أقل من عام على ولاية مرسي. ورجب طيب أردوغان دفع تركيا إلى حرب جديدة مع الأكراد والتدخل في سوريا تحت حماية حلف الأطلسي.
فقد الإسلام السياسي جاذبيته عالميا ومحلياً وستفشل الأنظمة الدكتاتورية في سد احتياجات سكانها والثورات الوطنية التي تغير مسار الشعوب تحتاج إلى عقود من الزمن أحيانا وهذا ما حصل في أوربا وسيحدث في العالم العربي.
وهل نموذج دول الخليج بديل آخر؟
في الوقت الذي يرسل فيه العالم الإسلامي إشارات يومية إلى بقية مناطق الكرة الأرضية عن الإرهاب والتطرف والتخلف والفقر يرسل الخليج العربي إشارات تربطه بقوة إلى العالم الغربي. هناك الأحداث الرياضية المتعددة التي تستضيفها دبي وأبو ظبي والدوحة. هناك أيضاً منتديات ثقافية متعددة واستضافة منظمات عالمية مثل الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في أبوظبي والسياحة.
طيران الإمارات وأبو ظبي (الاتحاد) وقطر يربط شرق وغرب العالم مع استعمال أحدث طائرات إيرباص وبوينغ عبر مطارات عالمية راقية. نستنتج من ذلك تألق دبي وأبو ظبي والدوحة وسلطنة عمان كأماكن يزدهر فيها المتحدثون بالعربية ويبتكرون ويقدمون نموذجاً للمضي قدماً.
تضاعفت بركات الدول من جراء وفرة الغاز والنفط مع مجموعة ذكية وتجارية في تفكيرها من الحكام. الأول أعطى البلاد موارد هائلة، والأخير حفظها من الأذى، التحرر من التطرف الأيديولوجي، والتركيز على الاقتصاد. ترى وتشعر بأن النتيجة هي مكان سعيد في الأساس لكل من يستوطنه ولكن لفترة مؤقتة.
ولكن هناك نقاط ضعف متعددة في هذا النموذج. فالإمارات على سبيل المثال تضاعف عدد سكانها خلال تسعة أعوام إلى ما يقارب 10 ملايين نسمة نتيجة النمو الهائل في الهجرة وخاصة من الهند. واحد فقط من كل تسعة رعايا هم من المواطنين. هذا العدد الهائل من المغتربين قد يكون مصدرا للمشاكل والفوضى إذا ما انتهت أوقات الرفاهية والخير. انخفضت عائدات الإمارات من النفط من 75 مليار دولار إلى 48 مليار دولار بسبب أزمة النفط الحالية التي شهدت هبوط سعر البرميل من النفط إلى دون 35 دولاراً. 98% من المياه المستعملة مصدرها تحلية المياه وذلك قد يعرض البلاد إلى أزمة هيدرولوجية. بالإضافة إلى ذلك ترى أقطار الخليج العربي على بعد 100 ميل من إيران، 400 ميل من العراق وتتقاسم الحدود مع السعودية العربية.
هذا النموذج يذكر الأقطار العربية الأخرى المشغولة بصراعات أهلية أنهم بحاجة إلى تجارة أكبر وانفتاح عالمي أكثر للمضي قدماً ولكن هناك نقاط ضعف متعددة ولا أحد يعلم إن كان نموذج الخليج يثير إعجاب الحكام العرب. أما الأهم من ذلك فهو هل تستطيع دول الخليج العربي النجاة من المخاطر الإقليمية التي تحيط بها؟
وفي النهاية نعود إلى الربيع العربي. سقط الربيع العربي في امتحانه الأول وفشل الإسلام السياسي أيضاً كبديل لقيادة الشعوب وليس هناك مفر من القبول بنظام ديمقراطي يعكس مراعاة حقوق الإنسان الكاملة من أجل النهضة بالشعوب العربية في المستقبل.
واقرأ أيضاً:
سيكولوجيا النهب من منظور علمي/ نظريات الثورات العربية ومقولة ابن خلدون 2012/ سوريا وربيع العرب تحت المجهر/ البحث عن قائد للشعب/ عالم حر أم سوق حر؟/ إرادة العراب في إدارة الأعراب/ التنظيم المؤسسي للشعوب العربية/ العراق بين قبضة إيران والميليشيات الشيعية/ عروبة اللامبالاة