قبل خمسة سنوات وفي يوم 17\12\2010 احترقت روح إنسان اختزن أوجاع وهموم أجيال، فاستفاقت الأمة المًنوّمة من خَدَرها وغفلتها، وحاولت إدراك وعيها والإمساك بعصرها!!
وثار الشعب ورددت الحناجر الشبابية، ولأول مرة في تأريخ العرب المعاصر، وبصيغة المضارع، "الشعب يريد إسقاط النظام"، ودوّت كلمة "يريد"، التي حوّلت نداء "إذا الشعب يوما أراد الحياة..."، إلى "الشعب يريد الحياة"!!
وانتصر الشعب التونسي، أول الثائرين، وغادر الرئيس في يوم الجمعة 14\1\2011، وتفاعل الشعب بنضوج حضاري يستحق الفخر والتقدير والتثمين، وأوجد صيغة ديمقراطية ذات قيمة وطنية حضارية للتعبير عن إرادته وتطلعاته وإشراقات أفكاره، وأسس نبراس القدوة العربية الثورية الناضجة. وقدمت تونس بثورتها الإنسانية الرائعة أمثلة كبرى، عجزت عنها المجتمعات العربية الأخرى بتنظيماتها وأحزابها وخصوصا الدينية منها.
ومن أهم الأسباب التي حافظت على توازن السلوك التونسي والعزة الوطنية، أن تونس هي الجمهورية العربية الوحيدة التي امتلكت أبا وطنيا، وضع الأسس الصحيحة لمنطلقات وطنية صائبة وصالحة للأجيال. ربما يعترض مَن يعترض، لكن تونس حباها الله بقائد وطني أصيل هو المرحوم الحبيب بو رقيبة، وبرغم كل ما يُقال عن فترة حكم الرئيس بن علي، فأنه لم يتصرف مع الزعيم التونسي الراحل بأسلوب غير حضاري، ولم يُعرّضه للهوان والذل، وإنما حافظ على صورته الوطنية الأبوية إلى آخر لحظات حياته، فأبقاه الرمز الوطني الحي في الوعي الجمعي التونسي، وبهذا فأن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تُهِن وتُذِل قادتها!!
ومع ما شاب حكم بن علي من سلبيات وانحرافات وقساوة وشدة أمنية وتعسف وفساد، لكنه بنى تونس وحافظ على المسيرة الوطنية التونسية، وغادر البلاد عندما أدرك بأنه قد فهم الحال واتضحت أمامه الأحوال، فقال "الآن فهمت"، التي قرنها بالخروج من البلاد بغتة، وما تعرض للذل والهوان، فحافظ على الإرادة الوطنية التونسية مستقيمة شمّاء!!
ومن نظرة سلوكية تأريخية، يبدو أن ما يجري في تونس هو الأصوب والأصلح للبلاد والعباد، برغم ما يرافقه من معوقات وعثرات وتحديات وأزمات واختناقات وضوائق متنوعة، فالأجيال يجب أن تتواصل وتتوالد لا أن تتقاطع وتتناحر، إذا أرادت الغد الأفضل والحاضر الأثمر.
وما أنجزته تونس يتوافق مع ما جرى في الدول المعاصرة، التي انتقلت من نظام حكم فردي أو حزبي إلى ممارسة الصيغ الديمقراطية في الحكم.
وجوهر النقلة الواعية الصالحة أن لا يمكن تسليم البلاد للشباب الخالي من الخبرات، وإنما على الشباب أن يمر بمرحلة التفاعل مع الأجيال الخبيرة بالحكم وإدارة البلاد، ويكتسب الخبرات الكفيلة بتحقيق النقلة النوعية المنسجمة السلسة ما بين الأجيال.
ولهذا فأن القول بأن الشباب الذي انطلق بالثورة لا يشارك في القيادة، قول فيه الكثير من السذاجة والغفلة، لأن العمل بهذا القول يعني تدمير البلاد وترويع العباد، كما حصل في دول عربية أخرى تولى القيادة فيها الجهلاء المعدومون التجارب والخبرات، فأصبحوا يعيشون في وهم السلطة والحكم، فعمّ الفساد وشاع الظلم والقهر وسفك الدماء، والصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية المدمرة.
وعليه فأن تونس تمضي في المسار الصائب، ولا بد لها أن تعاني وتتكلف حتى تتمكن من الانطلاق الواثق في فضاءات العصر الرحيب.
وعلى الشباب أن يكون إيجابي المواقف والتطلعات، لا تهكمي الطرح وسلبي الأفكار، وكأنه يريد الانقضاض على ثورته المنيرة الخضراء، وتحويلها إلى صراعات ما بين الأجيال، بدعاوى أن الثورة قد خطفتها الأجيال الأخرى، وأن جيل الثورة لا يشارك في الحكم.
إن مثل هذه الدعوات المضللة والطرح الخدّاع يُراد منه إهلاك المجتمعات وتعويق الثورات. وينسى شباب الثورة بأنه سيشارك حتما في السلطة والقيادة، وعليه أن يكتسب الخبرات، ويساهم في البناء والأمن والقوة والصلاح الوطني والاجتماعي، والتنمية الاقتصادية وابتكار فرص العمل، وتحويل الأفكار إلى مشاريع اقتصادية مربحة، تستوعب العاطلين أو المُعطلين عن العمل.
فالثورة طاقة متفجرة وعليها أن تكون ذات رؤية، ولديها أوعية وسبل واضحة لتصريف الطاقات الفائرة، وإلا فأنها ستتحول إلى شظايا وجمرات متطايرة الشرار في أرجاء المكان والزمان. وتبقى تونس قدوة ثورية فكرية، تؤسس لمنظومة سلوكية عربية معاصرة للانطلاق الحضاري الرائد، ومبروك لها العيد الخامس لثورتها المشرقة!!
واقرأ أيضاً:
عام ُانطلاقٍ وانعتاقٍ!! / الكراسي العربية وصناعة الأعداء!! / الرؤية والتبعية!! / الأقوياء يهابون الأقوياء!!