التغيير في الشعوب قد يأخذ أحد شكلين: التغيير بالتراكم أو التغيير بالطفرة, والتغيير بالتراكم هو عملية مواكبة للأحداث ولتغيرات العصر وتطورات الحياة, وهو أقرب لعملية إصلاح تدريجي تضمن استمرار سلامة وعافية المجتمع على الرغم من وجود نسبة خطأ أو فساد لا يخلو منها مجتمع إنساني. وحين تتوقف عملية التغيير التراكمي أو تفشل أو تتشوه فهذا يعني أن الشعب في خطر وأنه أصبح على المنحدر...؛
وبما أن الشعوب لا تموت ولا تنتحر (في الأغلب), فإن الوعي الشعبي يستيقظ ويتراكم حتى يصل إلى حالة الذروة فتقوم الثورة لتدير العجلة في الاتجاه الصحيح الذي يضمن صلاح الحياة, وهنا لابد وأن تتخلص الثورة من كل النظام القديم أو أغلبه ليقوم نظام جديد برؤية جديدة وفلسفة مختلفة وقد يستغرق هذا الأمر عدة سنوات للحفاظ على البنيان الأساسي للدولة الذي يسيّر حياة الناس اليومية أثناء عملية التغيير ويحفظ لهم أمانهم, وفي أحيان أخرى قد تتعجل الثورة فتهدم بنيان الدولة وهنا يدخل المجتمع في حالة فوضى قد يعقبها حرب أهلية تنتهي حتما بجلوس الأطراف المتحاربة لوضع قواعد جديدة تستوعب التيارات المتصارعة في كيان سياسي جديد.
وفي كثير من الثورات تحدث ثورة مضادة فتعيد النظام القديم بأسماء جديدة أو في أشكال مموهة وبعض عمليات الجميل, وكأنها قامت بعملية الإصلاح.. وكأنها تحقق أهداف الثورة وكأنها تقوم بعملية البناء بعد هدم الكيان القديم، وكأنها تنتقل من الثورة إلى الدولة. والثورة المضادة تبدأ متخفية على استحياء ثم شيئا فشيئا تفصح عن وجهها إلى الدرجة التي لا تستحي فيها من إهانة الثورة الأصلية وسجن الثوار أو قتلهم أو تشويههم, بالتزامن مع تقديم أعداد متزايدة تدريجيا من الوجوه والمؤسسات القديمة وارتكاب نفس الأخطاء التي كانت سببا في قيام الثورة الأم.
وحين تطمئن الثورة المضادة إلى استتباب الأمور لها تتراكم وتتعاظم أخطائها.. ويحدث بالتوازي تراكم وتعاظم الغضب الشعبي منها ومن رموزها, ويصبح الشعب على "الشاحن", وقد تحتاج عملية الشحن لشهور أو سنوات حتى تصل الشحنة إلى النقطة الحرجة (وهي انتفاض وخروج 15% من الشعب على الأقل للمطالبة بالتغيير)... هنا يحدث ما يسمى بالثورة المرتدة, وهي ثورة على الثورة المضادة.
ما سبق كان تحليلا نفسيا اجتماعيا لمسار الثورات بوجه عام, فإذا جئنا للثورة المصرية في 25 يناير 2011م, فإنها قد مرت بمراحل عدة أولها المرحلة المثالية (السلمية الرومانسية) للثورة وهي الثمانية عشر يوما الأولى منها والتي انتهت بتنحي مبارك وكبار رجاله عن الحكم, ثم تلا ذلك مرحلة تبريد الثورة ثم مرحلة ركوب الثورة ثم مرحلة خطف الثورة ثم مرحلة خداع الثورة ثم مرحلة غيبوبة الثورة, وكان يواكب هذه المراحل عملية تصاعد تدريجي لرموز وآليات الثورة المضادة على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي. ولكي تمر الثورة في هذه المراحل كان لابد من استخدام فزاعات وتخويفات وتهويلات وشعارات تسهل عملية وأد الثورة والخلاص منها نهائيا على المستوى العملي مع استبقاء بعض عبارات المجاملة العاطفية من وقت لآخر لتمجيد الثورة والترحم على شهدائها والإشادة بعظمتها.
والثورات بطبيعتها لاتموت لأنها حالة وعي شعبي ونبضة نمو حتمية لابد وأن تصل إلى غايتها وتحقق أهدافها وتجرف من يعترض طريقها, قد تتعثر أحيانا, وقد تخطئ, وقد تخدع, وقد تركب أو تسرق أو تخططف (بضم التاء), ولكنها أبدا لا تموت, وغالبا تعود بعد كل هذه المحاولات في صورة "ثورة مرتدة" لتحقيق أهدافها التي لم تتحقق في مراحل تعثرها, وقد تأخذ الثورة المرتدة أشكالا عديدة, وقد تحتاج لصور مبتكرة غير الصورة القديمة التي نجحت بها الثورة الأم, ولكن الخطورة أنها كثيرا ما تأخذ شكلا انتقاميا عنيفا خاصة إذا بالغت الثورة المضادة في محاولات إهانتها وقمعها ووأدها. ولا توجد طريقة لتفادي "الثورة المرتدة" إلا تحقيق أهداف الثورة الأم بشكل حقيقي واحترامها كجزء حيوي وجوهري في تاريخ الشعب حتى وإن اختلف معه البعض. نسأل الله لمصرنا الأمن والسلامة ولمن بيدهم الأمر الهدى والرشاد.
واقرأ أيضاً:
متسع جديد للدهشة / زينب مهدي: صرخة وفرصة / الحاضر والمستقبل بعيون الفن / هوامش على مقتلة باريس / 25 يناير... رابعة