أصنع من الليمون الحامض شراباً حُلواً
"خص النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم -وهم أهل مكة- بمزيد من الغنائم والأعطيات لتتألف قلوبهم على الإسلام، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم من ذلك، وقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطى قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!!.
فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إلى الأنصار، فاجتمعوا في مكان أعد لهم، ولم يدع معهم أحداً غيرهم، ثم قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفـرقين فألفـكم الله بي؟ وكنتم عـالة فأغناكم الله بي (كلما قال لهم من ذلك شيئًا قالوا متفرقين: بلى، الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل).
ثم قال: "ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ "قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصُدَّقتُم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك"، فصاحوا: بك المن علينا لله ورسوله، ثم تابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! أما ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، وإنكم ستلقون أثرة من بعدى فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"، فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسماً ونصيباً.
أرسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال هذا الموقف التربوي ملامح و معالم التعامل مع المشكلات.. الأمر الذي يدعو كل مشرف ورئيس أن يتأسى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتعامل مع المشكلات الإنسانية التي تعترض طريقه.. وطريق فريق عمله..
روى ابن سعد في طبقاته وابن هشام في سيرته، أن غُـلاماً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اسمه "جهجهاه بن سعيد الغفاري" تنازع مع "سنان بن وبر الجهني" وهما عند ماء المريسيع في أثناء مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- هناك، وكادا أن يقتتلا فصرخ الجهني "يا معشر الأنصار" وصرخ جهجهاه "يا معشر المهاجرين" فسمع بالأمر عبد الله بن أبي بن سلول فغضب وقال لمن معه: أوفعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في دارنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش (يقصد المسلمين من قريش) إلا كما قالوا: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكان ممن سمع كلامه زيد بن أرقم.
فمشى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبره الأمر، وكان عنده عمر -رضي الله عنه- فقال عمر: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليقتله فقال عليه السلام: "فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" لا ولكن بالرحيل, وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يرتحل فيها, فارتحل الناس- و قد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه, فحلف بالله ما قلت ما قال, ولا تكلمت به, وكان في قومه شريفاً عظيماً, فقال من حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل, حَدَباً على ابن أبي بن سلول ودفعا عنه، وإنما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبى.
ومن الدلالات الهامة في التعامل مع هذه المشكلة:
- هدوء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند وصوله خبر عبد الله بن أبي مما يدل دلالة واضحة على حسن القيادة التي يتمتع بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- .. ومن ثم اتخذ القرار المناسب..
- اشتغال فكر المرؤوسين بأمر آخر من الأساليب الإدارية والتربوية عندما نريد إبعاد فكر المرؤوسين عن المشكلة الواقعة.
- اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسلوبًا راقيًا في معالجة الموقف وهو اتخاذ القرار المباشر في تنفيذه قبل استفحال الأمر وانتشار رقعته.
- عدم الرد قد يكون من أنجح العلاجات في التعامل مع المشكلات وذلك عندما يكون الصمت أبلغ من الكلمات. فكن أيها المدير بارعًا ولبقًا، وسيطر على المشكلات من كل جانب وأحسن العرض.. وعالج بحكمة مستعيناً بالله ومقتدياً برسوله -صلى الله عليه وسلم-.
عمل رجل في ألف رجل خيرٌ من قول ألف رجل في رجل:
"لما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من إملاء بنود صلح الحديبية أقبل على أصحابه.. فقال لهم: "قوموا فانحروا ثم احلقوا".. وكرر ذلك ثلاثًا -فوجدهم جميعا- وما قام منهم أحد، فدخل على زوجته أم سلمة وذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا رسول الله أتحب ذلك اخرج ولا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنة، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق رأس بعض حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم".
" توقع أيها الرئيس –أن يتأبى أفراد فريقك على أوامرك خاصة في وقت الشدة وتراكم الشبهات.. توقع ألا يكون لكلمتك دويًا في قلوبهم وعقولهم ولست أحب إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه. وعندما يحدث ذلك -استقبل الأمور بهدوء وروية- ولا تقف موقفاً صلباً مُتشدداً.. إنما اللين في هذه المواقف وإعطاء القدوة هو خير ضمان لتهدئة الموقف.. حتى يعود صواب فريقك إليهم.. كما ينبغي أن تحسن استشارة من حولك في كل وقت ولا سيما وقت الأزمات..
إن المدير الواعي هو الذي يستشير فريق عمله...... فيستفيد من رجاحة عقولهم وسداد منطقهم.. فيجعلهم بهذه الشورى يشعرون بارتباطهم بالعمل.... وبارتباط العمل بهم.. بل هم الذين يرسمون ملامحه و يشيدون أركانه..... ومن ثم يقوي انتمائهم وإيجابيتهم..... ويفجر طاقاتهم.. وإبداعهم..
ولقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على استشارة أصحابه في كل موقف يتطلب الشورى.. ومن ثم كان لذلك أعظم الأثر وخير النتائج و أحسن تربية أصحابه عليه الصلاة والسلام من كل الأعمار.... لقد ربى الرجال من أمثال عمر وخالد وعلي وأبي ذر.. وربى النساء من أمثال خولة وأم سلمة وزينب بنت جحش.... وربى الفتيان من أمثال عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو..... وربى الفتيات من أمثال عائشة وأسماء وفاطمة، وحتى الشيوخ والعجائز نالهم من حسن تربيته صلى الله عليه وسلم من أمثال أبي قحافة وأبي سفيان وأم أيمن وسودة بنت زمعة.... وحتى أطفال الصحابة نالهم من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المواقف التربوية الجليلة من أمثال سيدنا أنس بن مالك وأخيه عمير وعبد الله بن الزبير، وكذلك الحسن والحسين وزينب أحفاده صلى الله عليه وسلم، وغير هؤلاء من صحابته صلى الله عليه وسلم الكثير الكثير.
ويتبع >>>>>>>>>>> ضرورة الشورى