كأننا نستلطف السكون والتمترس في مرحلة من مراحل حياتنا بكل قضيضها ونفيضها، وندور حولها ولا نعرف منفذا منها وسبيلا إلى غيرها. ونقيم إقامة جبرية في مرحلة زمنية من تأريخنا دون سواها، ونعجز عن الحركة والتفاعل مع البشر، بل نتماهى معها ونجسدها بعد قرون من حصولها.
فلا نعيش الحاضر كحقيقة ومفردات وطموحات، بل نستوطن الماضي ونستحضر سلبياته وننكر إيجابياته، ونفعل ونتفاعل وفق قوانين سلبية استنبطناها من حيثيات الماضي البعيد، ومن دموية الأحداث ومأساويتها وسوداويتها، فجعلنا أيامنا أكثر سوادا وبؤسا وألما منها.
فهل نحن مصابون بداء السكتة الحضارية والصمت الأبدي؟!
كأننا مومياءات، ونفكر بعقول غبراوية، لم يؤثر فيها الزمن ولم يجري فيها ماء جديد، بل أنها تهضم الجديد بمعدتها القديمة، وتتمثله وفقا لآلياتٍ لا تصلح للوقت الحاضر. الأمم والشعوب تعتز بتأريخها وتتأمله وتستنبط منه، وتأخذ العِبر والدروس لكي لا تكرر الأخطاء والمآسي، لكنها لا تعيش فيه وتنبشه في حاضرها. فالأمم قد تجاوزت تأريخها المرير وحققت وجودها الكبير. ومَن يريد أن يعيش تأريخه يقع في مهالك خطيرة.
وفي الأرض أمم وشعوب تحاول أن تعيش التأريخ الذي أكل الدهر عليه وشرب قرونا، وتراها في مآزق وصراعات لا تنتهي. فالأمم الحية لا تجتر مآسي وسلبيات الماضي، لأنها تدري جيدا، أنها لا يمكنها أن تغير ما حصل، وأن تجدد ما كان، ولهذا تتجه إلى صياغات وصيرورات تؤكد الإيجابي وتحاصر السلبي وتحذر من تكراره.
فهل نحن نعتبر من التأريخ وأحداثه، أم أننا نتأسّن فيه ونتلذذ بمصائبه وسلبياته؟
والشعوب في تأريخها محطات باكية حزينة مؤلمة، وأخرى ضاحكة فرحة تثير الزهو والكبرياء والقوة، فتترك تلك للاعتبار وتأخذ هذه للصيرورة الأحسن. ونحن ننحشر في عقلية مرحلة من مراحل حياتنا ومسيرتنا الطويلة، ونملك تأريخ فخر وزهو ومجد وكبرياء. فلماذا لا يتجسد هذا في فعلنا وبنائنا للدولة والقانون؟ ولماذا لا نستحضر الماضي المجيد، ونعترف فقط بالماضي المؤلم، الذي هو لا يساوي شيئا بالقياس إلى الماضي المشرق؟
لماذا نجنح إلى البكاء والعويل والندب، لا إلى البناء والمحبة والصفاء والرحمة والأخوة والقوة؟
لماذا نختار مصير الويلات والضعف، ونرفض مصير القوة والسعادة والحياة الطيبة الكريمة؟
وهل تساءلنا لماذا لا يتخندق العالم في حروبه الأهلية ومآسيه ويمضي في اجترارها والتورط بآلامها؟
نحن نختلف عن شعوب الأرض، وعلينا أن نواجه أنفسنا بعقل وليس بانفعال وغضب، وأن نخرج من خندق الماضي السلبي، وندرك الإيجابي في مسيرتنا، ولا ندفنه بانتقائيتنا المبرمجة المؤذية. ولنتحرك بعقل منفتح وروح صافية تحت ضوء الشمس، ونعيش بحسناتنا فوق الأرض. فانفضوا غبار التأريخ السلبي، وهللوا للوقفات القوية الإيجابية فيه، وانطلقوا إلى حيث الحياة اللائقة بنا.
تُرى مَن الذي كرّهنا بتأريخنا وأغضبنا عليه، وجعلنا ننظر إليه بعين السوء لا بعين الرضى والاستحسان والزهو؟!
واقرأ أيضاً:
تنويم أمة!! / العطالة والبطالة!! / فكّروا بطريقة اقتصادية!! / عقلية الأسوار والجسور!!