مر يوم الأمم المتحدة العالمي للعدالة الاجتماعية يوم 20 فبراير مر الكرام ربما لأن الكثير من البشر في جميع أنحاء العالم لا يؤمن بهذه القاعدة أو لا يفهم معناها. ما يفهمه البشر هو أن العدالة مفهوم قانوني بحت والحديث عنه يعني المساواة أمام القانون على أقل تقدير أما العدالة كمفهوم اجتماعي فهو صعب التعريف ولا وجود له.
العدالة مفهوم حضاري وله موضعه في جميع الكتب الدينية. يشير القرآن إلكريم إلى العدالة المطلقة في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ....." (النحل: ٩٠). قدم العدل على الإحسان وفي سياق الآية الكريمة ترى الحديث هو عن العدالة الاجتماعية وليس العدالة القضائية لأن لا وجود للإحسان في القضاء.
كذلك الأمر في كتاب التوراة المقدس حيث يتم استعمال مصطلح العدالة في إطار فردي واجتماعي. مصطلح Mishpat ويعني العدالة الفردية ومصطلح tzedek ويعني العدالة الاجتماعية.
ولكن رغم ازدحام كتب التاريخ العالمية ومنها العربية بأمثلة عن العدالة القانونية عبر تاريخ البشرية بين الحين والآخر ولكن الأمثلة عن العدالة الاجتماعية ضئيلة جدا على أكثر تقدير. تاريخ الشعوب وخاصة تاريخ الشعوب العربية هو تاريخ الزعماء والأثرياء والشعراء ولا تجد فيه ما يستحق القراءة حول عامة الشعب. لم يتغير الحال في العصر الحديث وإلى يومنا هذا.
لم يتغير حال الشعوب كثيراً مع قيام عصر النهضة الأوربية التي حرصت على العدالة والمساواة أمام القانون ولكن جهودها في سن التشريعات لولادة عدالة اجتماعية لم تنجح نجاحا باهرا. مع بداية القرن العشرين وسقوط القيصرية الروسية توجهت الأنظار نحو عدالة اجتماعية في إطار اشتراكي شيوعي أو إطار رأسمالي أمريكي. الحلم السوفيتي هو عن المساواة المطلقة بين جميع البشر وفرضها قهريا بكل معنى الكلمة وتم استعباد الشعوب من قبل السلطة وانتهى الحلم واستيقظت الشعوب من نومها قبل نهاية القرن.
أما الحلم الأمريكي فهو دارويني الإطار عن العمل الشاق والحر والكفاح من أجل البقاء. تستعمل الشعوب مصطلح الحراك الاجتماعي Social Mobility للتعبير عن هذا الحلم ولكنه لم ينجح كليا في ولادة عدالة اجتماعية وحظ الفقير في تكميل تعليمه الجامعي أقل بكثير من الغني وفرص العمل المفتوحة أمام الجميع بدأت تتضاءل مع تقدم التقنية بجميع أنواعها.
فردريك هايك بريطاني من أصل نمساوي
حصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1974
واشتهر بدفاعه عن الليبرالية
يقول فردريك هايك بأن مفهوم العدالة الاجتماعية لا وجود له وليس أكثر من سراب ووهم لتضليل الشعوب وأحد علامات التفكير القذر والخيانة الفكرية. يضيف إلى ذلك بأن هناك عدالة للأفراد ولكن لا وجود للعدالة للمجتمع ككل.
العدالة الاجتماعية والعالم العربي والإسلامي
لا يكفي الحديث بصورة عاطفية عن العدالة والاجتماعية والحراك الاجتماعي رغم تعدد الأمثلة ولابد من اللجوء إلى أرقام وإحصائيات صادرة من البلد نفسه رغم أن الحكومات تميل كثيرا إلى تضخيم إنجازاتها.
هناك مؤشر التقدم الاجتماعي Social Progress Index والذي يستند على تلبية الاحتياجات البشرية الأساسية للإنسان والفرص المتاحة له. لا يوجد بلد عربي أو إسلامي في المراكز الأربعين الأولى في عام 2015، وحتى الغنية منها نتائجها لا تزيد على 50 درجة بكثير.
يمكن حصر العدالة الاجتماعية التي يسعى إليها المواطن العربي في إطارين:
1- الكرامة في العيش.
2- الفرص المتاحة أمامه.
هناك احتياجات بشرية أساسية تتثمل في التغذية وتوفر الماء الصالح للشرب ومأوى سكني صحي والسلامة الشخصية في البيت ومكان العمل والطرق. هذي الاحتياجات الأساسية للعيش هي التي تضمن كرامة الإنسان في المجتمع الذي ينتمي إليه.
وهناك الفرص المتاحة أمامه في التعليم والعمل والتخلص من الوساطات والتي وظيفتها الأولى والأخيرة تكرار احتلال طبقات وعائلات معروفة على مراكز العمل القيادية وبالتالي وقف عملية التقدم الاجتماعي وتشجيع المهارات على هجرة الوطن وضمان تفسخه في المستقبل. عملية الحراك الاجتماعي تتأثر بالعلاقات الشخصية في كافة المجتمعات ولكنها على أشدها في العالم الثالث. قد تتطلب عملية الحراك الاجتماعي أحيانا تضحية الفرد بمبادئه الشخصية وخاصة في القطاع المهني ولكن حتى هذه الفرص لا وجود لها أحيانا في العالم العربي ولا يرى الإنسان أمامه سوى أبواب تم قفلها بأحكام.
العدالة الاجتماعية والطب النفسي
حظ الفرد الذي يعاني من اضطراب نفسي أقل بكثير من غيره في المجتمع. تلعب الظروف الاجتماعية والبيئية السلبية دورها في إصابة الإنسان باضطرابات نفسية متعددة تدفعه إلى أسفل السلم الاجتماعي.
يتم قياس حضارة المجتمعات بتوفيرها كرامة العيش للمصابين بالخرف وتحملها مسؤولية النفقة عليهم. تمتد توفير هذه الكرامة للمصابين بالاضطرابات النفسية الجسيمة والصعوبات التعليمية الشديدة التي تمنع الفرد من العمل وتحرص الدولة على ضمان سلامتهم وعلاجهم المجاني واستخدام كافة الوسائل لمنع استغلالهم حتى من أقرب المقربين لهم.
لا ينجو المريض الذي تعافى من اضطراب نفسي من التمييز في القطاع المهني وتتضاعف نتائج الوصمة الاجتماعية التي يصدرها المجتمع بحقه. لا يمكن تطهير المجتمع من التمييز ضد المصابين باضطرابات نفسية دون توعية جماهيرية وسن القوانين لحمايتهم.
وهناك أيضاً الاضطرابات العصبية النفسية في مراحل الطفولة والتعليم الأولي التي لا ينتبه إليها القطاع الطبي والتعليمي أحيانا، ويغادر الفرد مرحلة التعليم وهو أقل تنافسيا من أقرانه ومن هذه الاضطرابات عسر القراءة Dyslexia.
عسر القراءة التنموي هو من أكثر الاضطرابات العصبية التنموية انتشاراً1 ويعني الصعوبة في القراءة لإنسان في أي مرحلة من مراحل العمر دون وجود أعراض أخرى تشير إلى صعوبات تعليمية ولا يختلفون عن أقرانهم في اندفاعهم وسلوكهم التعليمي. يمكن تشخيص عسر القراءة في أكثر من 80% من الأفراد الذين يتم تشخيصهم بعجز التعلم learning disability.
يمكن النظر إلى قابلية الفرد على القراءة من نموذج أبعاد فهناك من له قابلية خارقة للقراءة وهناك من له ضعف وعسر فيها. الأبحاث العلمية تشير إلى إصابة ما يقارب 2- 15% من الأطفال بعسر القراءة التنموي. هناك تاريخ عائلي لوجود مثل هذا الاضطراب في أحد الوالدين بين 25 إلى 65% من الحالات.
من أعراض عسر القراءة2:
٠ القراءة والكتابة ببطء
٠ ارتباك تسلسل الأحرف في الكلمة
٠ يضع الأحرف بصورة معكوسة
٠ ضعف التهجي
٠ يفهم كل ما تقول له شفويا ولا يفهمه عن طريق القراءة
٠ صعوبة في متابعة تسلل الإرشادات
٠ صعوبة في التخطيط وتنظيم الواجبات.
هؤلاء الأطفال يتم وصمهم أحيانا بالأغبياء والكسالى منذ عمر مبكر ويتم الحكم عليهم بالبلادة طوال العمر من قبل المجتمع. يجب أن تحرص المؤسسات التعليمية على مساعدة هؤلاء المستضعفين من عمر مبكر فأداء الكثير منهم تعليميا لا يختلف عن أقرانهم.
حين تتحدث الشعوب والأمم عن العدالة الاجتماعية فعليها أن ترعى جميع الأفراد وفي مختلف مراحل العمر ولكن التحدي الكبير لهم هو ضمان هذه العدالة في مراحل الطفولة والتعليم ومن ثم تنافسهم بصورة شرعية وعادلة في الحصول على فرص التعليم الجامعية وبعدها في العمل. هذا هو الحد الأدنى الذي يضمن عدم انقراض الحضارات.
المصادر:
1- Shaywitz S (1998). Dyslexia. New England Journal of Medicine 338: 307-312.
2- Siegel L(2006). Perspective on dyslexia. Paediatrics and Child Health 11(9): 581-587.
واقرأ أيضًا:
مأساة الشاب العربي والخيمة الإسلامية/ الشك في رمضان/ النزاعات الوجودية والشباب العربي/ معالم الأخلاق والطب النفسي/ حرية الرأي في العالم العربي والإسلامي من منظور اجتماعي نفسي/ يا مسهرني بين القاهرة وهافانا