كثر في الآونة الأخيرة إطلاق لفظ "شخصية مثيرة للجدل" على شخصيات تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي وتحدث صخبا وضجيجا وربما نفورا واشمئزازا, ربما يختلط بإعجاب بعض العامة والبسطاء وذوي الأهواء, فلا تستطيع أن تعرف على وجه الدقة إن كانت هذه الشخصية ممقوتة أم محبوبة, ويزيد من حدة الجدل حالة التشوش في الوعي العام وحالة الغموض والتزييف وعدم الشفافية, وحالة الضخ الإعلامي الموجه نحو تحقيق مصالح شخصية أو فئوية على حساب الصالح العام.
و"الشخصية المثيرة للجدل" تحوي الكثير من التناقضات في داخلها وفي أفعالها, ويتناقض ما تقوله مع ما تفعله, بل ويتناقض ماتقوله في وقت عما تقوله في وقت آخر. كما أن الشخص المثير للجدل يكذب كثيرا وينسى أنه قال شيئا في موقف بعينه فيقول عكس الشيء في نفس الموقف بناء على توجهات بوصلة مصالحه وأهدافه الذاتية, ولهذا يحتار الناس في تفسير آرائه ومواقفه. كما أن الجزء الغاطس في الشخصية المثيرة للجدل أكبر بكثير من الجزء الظاهر, وهو يفعل ذلك بوعي أو بدون وعي لكي يحتفظ لنفسه بمساحة كبيرة للمناورة والخداع واللف والدوران.
و"الشخص المثير للجدل" يلبس قناعا اجتماعيا يعيش به في الفضاء العام ويسوق به نفسه ويحرص على تزيينه بكل ما أوتي من قدرات ومهارات, أما حياته الشخصية والتي يعرفها المقربون منه فإنها تختلف اختلافا جذريا عن هذا القناع الزائف.
وكثير من هذه الشخصيات ينطبق عليها وصف "الشخصية السيكوباتية", وهي الشخصية المضطربة اجتماعيا ودرجة اضطرابها لا ترقى إلى درجة الشخصية المعادية للمجتمع, ولكنها تحمل سمات بعيدة عن السواء الاجتماعي والإنساني, ولكنها تحتفظ بالقدرة على التلاعب للبقاء في حيز التأثير والإفلات من الوقوع تحت طائلة القانون, بل إن قدرتها على التلاعب بأفكار البسطاء ومفتقدي الوعي (حتى من المثقفين وأنصاف العلماء والمتعلمين) تجعلها تتبوأ مراكز متقدمة في الهرم الوظيفي والاجتماعي بما يجعل الناس يعجبون أو ينبهرون بهذه الشخصية رغم صدماتهم المتكررة من تناقضاتها وتشوهاتها, ومن هنا تأتي الحيرة ويأتي معنى "شخص مثير للجدل", فهذا الشخص أراجوز وبهلوان ومناور وملاوع وفهلوي و"بتاع التلات ورقات", ومع ذلك يحقق نجاحات على المستوى الشخصي والمهني وربما على المستوى العام, ويختلف الناس كثيرا حوله.
والسياق الاجتماعي المضطرب والفوضوي قد يساعد على كثرة ظهور الشخصيات المثيرة للجدل, فهذه الشخصيات تنمو وتترعرع في بيئة الفساد والاستبداد والكذب والغموض وانعدام الشفافية واضطراب المعايير. ففي هذا السياق المضطرب ينسحب الشرفاء والأسوياء والموهوبين تعففا أو زهدا أو تجنبا أو إيثارا للسلامة أو خوفا من التلوث, فتخلو الساحة لمثيري الجدل فهم أكثر جرأة واندفاعا نحو المغانم وأكثر انتهازية للفرص, وهنا تمتلئ مواقع التأثير بالشخصيات المثيرة للجدل وتضطرب عملية صناعة القرار, وتضطرب خطوات التنفيذ وينقسم المجتمع الحائر والمشوش على نفسه وتزيد الانقسامات والاستقطابات والمواجهات والصراعات والتي يمكن أن تصل إلى حالة تهدد سلام المجتمع بأسره.
و"الشخص المثير للجدل" كشخصية سيكوباتية قد يبدو مهذبا دافئا حنونا (ويطلق عليه السيكوباتي المهذب), أو يبدو ساخرا مثيرا للضحك (السيكوباتي المهرج), ولكنه يخفي طبقة أو طبقات أخرى من العدوانية والعدائية والانتهازية تظهر عند أي استثارة له, وسلوكه المتناقض يؤدي إلى انقسامات حادة في الوسط الذي يعيش فيه, وهذه أحد العلامات الهامة للشخصية السيكوباتية وهي إحداث الانقسامات والانشقاقات بين الناس الذين يعيشون معهم, ويدفعون إلى حالة من الاشتباك الدائم والمتكرر, إذ يجدون أنفسهم في هذه الأجواء الصراعية, ويحكمون سيطرتهم على المحيطين بهم بعد أن يدفعوهم للصراع.
والمجتمع السوي هو الذي يملك آليات تنقية صفوفه ومراكز التأثير فيه من تلك الشخصيات المثيرة للجدل حتى لا تأخذه إلى هاوية الصراع والتلوث الأخلاقي, وهذا يتطلب البحث عن الموهوبين والأخلاقيين والمستقيمين والصادقين والمخلصين ليتبوؤوا مواقع القيادة والتأثير, وهذا لا يحدث للأسف حين يتم اختيار القيادات في الغرف المظلمة وبناء على اعتبارات الثقة والقابلية للتوجيه والاستخدام.
واقرأ أيضاً:
الترتيب في الأسرة وأثره على سمات الشخصية / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / شخصية الطاغية / التحليل النفسي لشخصية صدام حسين