العقيدة طاقة هائلة تستجمع القدرات الإنسانية وتذيبها في بودقة الصيرورة الكبرى، وهي فعل مطلق وثّاب يشمل جميع النشاطات الحية على مسرح الكون المتسع، والفاعل في عالمها يكون صاحب إمتداد خلاّق ما بين الأزل والأبد، ويتمكن بطاقته الفائقة أن يتحدى أي قوة فوق التراب ويزعزع أركانها ويحطم بنيانها، فلا قوة تتمكن من العقيدة إذا ثبتت في قلب الإنسان، ومنحته الوسائل الكفيلة بالتواصل مع قدرات الكون الفسيح.
وفي التأريخ هناك الكثير من الأدلة على دور العقيدة في تأسيس معالم الوجود وتفوقها على القدرات المادية الماثلة أمامها، واكتساحها للمعوقات وتأكيدها لصيرورتها الفاعلة في الحياة. ومثلنا الرائع المنير في مسيرة الإنسانية الحضارية هو العقيدة الإسلامية، التي توهجت في قلوب الصحابة والتابعين والمسلمين الأوائل، فأسست لإشراقة حضارية لا تغيب. ولولا حرارة العقيدة الإنسانية وفورانها الإبداعي والإيماني الكبير لما تحرك نهر الأجيال البشرية، وحصلت فيه فيضانات فكرية وثقافية غيّرت مسيرة الدنيا.
وفي واقعنا المعاصر يتوجب تحقيق الثورة الثقافية الجادة المتنورة بالإرادة الإنسانية الواعية والمشاعر الوطنية النقية الصافية، والعواطف الإيجابية الطامحة لإنجازات بناءة ذات قيمة وطنية وإجتماعية مفيدة ومتألقة في البلاد، وهذا تطلع بحاجة لعقيدة وطنية، تستمد أنوارها من الحياة وجوهرها الرائق الفياض بالمعاني الطيبة، أساسها المحبة والأخوة والتفاعل الاستيعابي الإيجابي المثمر المعطاء، وتسعى لتقوية آواصر الإنتماء الوطني وتحقيق الأمن والسلام والرفاه الاقتصادي والفكري والنفسي.
هذه العقيدة الوطنية قوة بلا حدود، تهز أعماق الكيان وتستخرج جواهره، وتساعده على النظر الشفاف، والتبصر الواعي في زمن المحن والملمات القاسية التي يعاني منها، وتشده إلى أخيه الإنسان بقوية لا يمكن إضعافها أو التقليل من شأنها، فيجد نفسه قادرا على امتلاك الحلول الصحيحة للمشاكل والمعضلات التي تسببت بها الأحداث والتطورات، فيزداد عزيمة وصلابة ويتمسك بعقيدته ويتمثلها ويتفاعل معها بوعي وإصرار على أن يكون.
ويبدو أن العقيدة الوطنية ربما أصابها بعض الخمود بسبب ما جرى ودار في السنوات الماضية، لكنها قد نهضت وإستعرت، ولا بد من توظيفها لتحقيق صيرورة وطنية معاصرة، ذات مرتكزات حضارية ينطلق منها الإنسان إلى فضاءات التحقق والتجلي الكبرى، فيخرج من صناديق الحيرة والقلق والإضطراب التي وُضع فيها، لأنها تستوعب جميع أنواع وألوان التوجهات والتصورات والتفاعلات والمنطلقات والشعارات، وتؤمن بالوطن وبوحدة ترابه وشعبه.
إن المواطن اليوم بحاجة لهذه العقيدة التي تتسع لطموحات أبناء الوطن، وتمدهم بالقوة والقدرة على البناء والتقدم والنماء، فالمواطن المتمسك بعقيدته الوطنية، يمكنه أن يأتي بما لا يخطر على باله أو يتصوره من الأعمال والإنجازات الأصيلة الصالحة، لأنه سيستمد القوة اللامحدودة منها فهي تمنحه طاقات التحدي والتقدم إلى الأمام. وسيكون بها فعّالا وهاجا منتصرا على المعوقات والمحبطات، ودواعي اليأس والفتور والضعف والخمول.
هذه العقيدة الوطنية المنيرة ستصنع الوطن الجديد، وتزيل الوهن والإنكسار وتبني الأمجاد الإنسانية السامية التي تليق بوطن الحضارات والثقافات الساطعة، وكل مشكلة بحاجة إلى طاقة لحلها، والعقيدة تفجر جميع الطاقات وتصبها في سبيل الظفر المجيد. فلتنغسل القلوب وتتنقي النفوس وتتطهر الأرواح بأنوار العقيدة الوطنية، التي تتحقق فيها مصلحة المواطنين، ويتأكد دورهم الإنساني الصحيح في آفاق المسيرة البشرية. فكلنا أخوة ونرتبط ببعضنا بوشائج إنسانية غالية، ذات قيمة تاريخية وروحية لا يمكن لأحدنا أن ينفصل عنها، بل يعود إليها مهما تفاقمت الظروف وتفاعلت الملمات التي تبعده عن ذاته وأخيه وحقيقته ودوره السامي ورسالته النبيلة المعطاء.
فتحية للوطن الحر الغني السعيد، الذي يرفل أبناؤه بالعزة والكرامة والأخوة الوطنية المباركة التي تمنح الخيرات والسؤدد والقوة والأمن والسلام. ورحم الله الرصافي حين قال:
"أمِن السياسة أن يُقتَّلَ بَعُضنا ..... بَعضا ليُدْرِكَ غيرُنا الآمالا"
واقرأ أيضاً:
كن مع الوطن لتصنعَ الحياة !! / العرب أمهر الخياطين!! / لعنة أدري العربية!! / المنطقة والمَنطق!!