البيئة العربية الاجتماعية والنفسية والفكرية والثقافية يسودها الموت، مما ينعكس على جميع النشاطات والتفاعلات الحاصلة في الواقع العربي. وهذه الثقافة الموتية تسربت إلى دياجير اللاوعي وتخللت في مسامات الرؤى والتصورات والمعتقدات، حتى أنها حلّت في الطعام والشراب والهواء، فما عاد للحياة فجوة أو فرصة وقدرة على التواصل والتفاعل والتمدد والاتساع، وإنما هي في حالة انحسارية يائسة بائسة باكية حزينة متوشحة بالنجيع.
فما تخطه الأقلام وتتفوه به الألسن وتطرحه العقول وتعبّر عنه التفاعلات والسلوكيات اليومية المتنوعة، تعزيز لمنحى الموت ومعادي لمواطن الحياة ونوازع التطلعات لحاضر سعيد ومستقبل رغيد. فالأنانية والمصالح الشحصية المقيتة تمكنت من الكراسي، حتى صار الشعب يولّي عليه السراق والفاسدين والخانعين للآخرين، الذين ينفذون أجندات الويلات والتداعيات والإستثمار بالنكبات، وكلها تعمل بجد وإجتهاد وهي ترفع شعار "إذا لا تستحي فإفعل ما شئت"، وكلها قد مسحت آخر قطرة حياء من جبينها المعفر بالذل والهوان والمخازي الجسام.
وهذه العوامل المميتة التي تداخلت في صناعة الواقع المرير الذي تعيشه المجتمعات العربية وتتمحن فيه، وكأنها في أوحال الويلات والتدهورات السيئة، والخسائر الفظيعة الشنيعة المهيمنة على آفاق الوجود البشري، والمؤدية إلى تصاراعات إتلافية وانحدارات انقراضية قاسية ومدمرة للمدن والعمران.
والثقافة الموتية نزعة مستشرية تجد لها مسوغات وتعززات في العقائد والقيم والتقاليد، التي تؤازرها وسائل الإعلام المُسخرة لتوظيف قدرات التقاتل والتباغض والإنثلام النفسي والروحي والفكري، بين أبناء المجتمع الواحد بكل ما تعنيه كلمة واحد. ووفقا لمنطلقات هذه الرؤية السلبية الإغتصابية الشوهاء، يتم تسخير المغرر بهم للنيل من الحياة وإفساح المجال للمستثمرين فيهم للتمتع الأقصى بمباهج الحياة، التي يرونها حكرا لهم ومحرّمة على المُسخرين للموت في سبيل تصوراتهم الحمقاء، التي يفرضونها على غيرهم ولا يترجمون حرفا واحدا منها.
فالذين يفترسون الآخرين ويصادرون حقهم في الحياة من أشد البشر أنانية وحبا للذات وإمعانا في المفاسد والمطامع والملذات، وهم يتقنعون ويُظهرون عكس ما يفعلون، ويريدون أتباعهم أن يفعلوا ما يقولونه لهم وأن يتجنبوا فعل ما يفعلونه، لأنه من حقهم وحسب.
ويقبع هؤلاء في صوامع التألّه والتقوقع المترفع الذي يزيدهم بعدا عن الناس، ويشعرهم بإنفلات قدرات الإلتذاذ والتمتع بما يحرمونه على الناس، فهم لا يموتون في سبيل ما يحدثون الناس به، وإنما يريدون الناس أن يموتوا في سبيله، وهم في قصورهم العاجية والناس تعيش في العراء وتكابد البلاء، وهذا في حسبانهم يزيدهم تقربا إلى جنّات النعيم الموعودة، وهم من المحظوظين المصطفين الذين لهم ملذات الدنيا والآخرة.
وتعجب من الناس الذين ينساقون وراء هذا البهتان، وكيف ينصرعون أفواجا أفواجا في أتون الضلال والخداع والإمتهان، وهم يوعدون بما لا يعرفون ولا يدركون، وإنما يترجمون إرادة إتبع وإقبع!!
واقرأ أيضاً:
أقدامنا عقولنا!! / أمّةٌ بلا ربّان؟!! / مَن يقتل مَن؟!! / التظاهر والتقاهر!!