مشكلتنا الحقيقية تكمن في تبعثر الإرادات، وتعدد الاتجاهات الخارجة من عدسة الضياع المقعرة، بينما عدسة الصيرورة الحضارية تكون محدّبة، حيث تتوحد إرادات القوى الفاعلة في المجتمع وتتركز في بؤرة وجودها الأعظم. فالإرادات المبعثرة هي القوة المدمرة للحياة والممزقة للوطن والمستنزف الأكبر للثروات والطاقات، لأنها ستكون مشتتة وضعيفة وسهلة الوقوع في براثن التبعية والخنوع والامتلاك من قبل الآخرين الطامعين بأكل البلاد.
فالدخول في عدسة الضياع المقعرة، يعني أن القدرة على امتلاك الوطن من قبل مواطنيه ستكون بعيدة وغير ممكنة، ولابد لآخر أن يمتلكه ويقرر مسيرته وفقا لمصالحه. فالإرادات المبعثرة ما هي إلا انطلاقات لا وطنية تبتعد عن مصالح الوطن وتطير إلى غيره، لأنها امتلكت عوامل اندفاع متوقدة تأخذها إلى ضده، وتنسيها بأنها تساهم في نهايتها وتدمر بلدها.
وعندما نقرأ خارطة الحياة (السياسية) في بعض البلدان المنكوبة بذاتها وموضوعها، يتضح هذا التبعثر المرير، ويتبين عدد الاتجاهات المتفرقة، والمنطلقة بسرعة مضطربة نحو غايات غير محسوبة، ومؤكدة لمصالح أخرى لا تتفق وبناء حالة وطنية وحضارية معاصرة. فعندما يعم التشتت ويكون فكرة منغرسة في عقول ونفوس وأعماق أبناء أي مجتمع بشري، فهذا يعني أن المجتمع قد تدحرج في وديان الضياع والهلاك، وصار فريسة لمجتمعات أخرى عديدة، تساهم في أخذ حصتها منه، فترى أبناءه قد انتشروا في مجتمعات الدنيا وذابوا فيها، وفقدوا سماتهم الوطنية والحضارية والثقافية، أي أنهم حققوا حالة الغياب والاندثار، حيث يتم سرقتهم بأساليب متنوعة والقضاء عليهم، وامتلاك أبنائهم وأحفادهم واقتلاع هويتهم وقطعهم عن أصولهم وجذورهم.
وهذا ما تحقق في مجتمعاتنا على مدى العقود الماضية، حيث تنامى التفرق وعمّ التشتت ونهضت قوى متعددة ذات إسناد وإمداد متنوع، لكي تساهم بقوة وإصرار في تجسيد التعبير العملي عن التبعثر والتشتت، الذي يعني تحقيق الافتراس الحضاري والتدمير الاجتماعي وإلغاء الوجود البشري الوطني، وأخذ كل ما يرتبط بالبشر المشتت، الذي صار يحلم بمغادرة بلده والهجرة إلى بطون الحيتان التي يغيب فيها وينتهي.
إن الواقع الإنساني الأليم الذي يرفع شعارات تُرائي، ويدّعي ما لا يفعل، وينسف كل ما يؤسس لصيرورة وطنية واجتماعية متماسكة ومعاصرة، يؤكد أن هناك الكثير من القوى الخفية الفاعلة في مستنقع الويلات والصراعات الاتلافية الحامية، ويجعل الناس لا يمكنهم رؤية الصورة الكبيرة وفهم القوانين الفاعلة في مواكب التدمير والضياع المبرمج، والمُعَزز بما لا يخطر على بال من المصادر والقدرات الكفيلة بتحقيق وتأكيد الضعف والهوان، وسرقة البلاد وأهلها وثرواتها وتفريغها من مصادر القوة والنماء.
وهكذا فإن إرادة التشتت والتبعثر قد تمكنت وتسيّدت وتسلطت وأمعنت في التعبير عما فيها من الرؤى والتصورات، وأصبحت محكومة ومأسورة بإرادة القوى التي تستفيد من التفرق الاجتماعي والفكري والثقافي المتصاعد، وصار من الصعب جدا على أية قوة وطنية ناهضة أن تأتي بعدسة حضارية محدبة وتلم بها هذه القدرات المبعثرة، لأنها غدت ذات مصالح وامتيازات ومعالم ومفاهيم وتفاعلات خارجية، لا تسمح لها بالخروج من نفق الامتلاك والافتراس الحضاري الشرس، فهي تُلاك بأفواه الطامعين وتُداس بأقدام أصحاب المصالح الأقوياء القادرين.
فهل ستتحدى الإرادات المبعثرة مصيرها المرير، وتدرك أن عليها أن تحطم عدسة الفتك بها وتمتنع من الدخول في تقعرها، وتضع عدسة وطنية محدبة تعيد اقتدار وعز وسيادة الوطن وتحقق الأمن والسلام والأمان لأهله أجمعين؟
واقرأ أيضاً:
الرأي رأيهم؟!! / الصالح المشترك!! / العقل الوطني!! / التصفيق بيدٍ واحدة!!