العبث بالعقل: الحلقة٢
"قدرات عقل الإنسان المذهلة، جعلت من الممكن لبعض العقول أن تخدع العقول الأخرى" يوسف مسلّم.
تحدثنا في الحلقة الأولى عن اليقظه الذهنية وموادها المعرفية، وفي الحلقة الماضية ذكرنا أن محرفات الإدراك والمعرفة يمكن وصفها ضمن أربعة مباديء أساسية كما يلي:
(1) مبدأ الرؤية في المرآة، وفيه وصف لطريقة تحليل الأمور من خلال رؤية محدبة أو مقعرة.
(٢) مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ، وفيه وصف لوجود مقاييس ومدار لإعمال العقل والتفكير.
(3) مبدأ محدودية العقل، وفيه توضيح لحدود قدرات الدماغ، وبالتالي العقل البشري.
(٤) مبدأ الهروب للسجن، وهو تشبيه لحالة تحرير العقل من سجن الجمود مما قد يؤدي للوقوع في سجن الهوى.
وسنقوم اليوم بالتوسع في المبدأ الاول، وهو مبدأ الرؤية في المرآة، وكنا قد قلنا أن الواجب بالمرآة أن تعكس الصورة الواقعية لما يظهر فيها، لكن الرؤية من خلال مرآة محدبة أو مقعرة ستجعل للواقع انكساراً مشوه الجنبات والوسط، فهنالك دائماً أبعادٌ أخرى لتفسير أي من الظواهر، سواء كانت هذه الظواهر نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو جغرافية أو علمية بحتة..، وإلا فلماذا على سبيل المثال نرى عدة نظريات نفسية تنظر كل منها بطريقة مختلفة لتفسير السلوك الواحد، لذلك سنتحدث عن عدة مرايا مختلفة يتم تحريف الوعي الذهني من خلالها فيصبح التفسير المحدب أو المقعر للبعض كأنه الواقع الحقيقي في الحياة، وسنقوم هنا بذكر إشكال التضليل التي يتعرض لها الناس.
(١) تزييف الثقة: ونرى هذا الأسلوب من التضليل وتحريف الوعي في عدة مجالات أقربها من نقرأه في بعض الكتب عندما يقول لك الكاتب (يقول العلماء، أو يقول الحكماء، او يقول الخبراء...) دون ذكر لمن قال ذلك، وحتى دون توثيق للمعلومة بحيث لا تستطيع معرفة هؤلاء المدعى أنهم قالوا، والتضليل هنا بتزييف الثقة بحيث أن هذه البداية التي يخبرك فيها (على سبيل المثال: يقول علماء النفس) تجعل القاريء يثق بالمعلومة اللاحقة والتي قد تكون مضللة أحياناً، أو حتى خاطئة، فقد رأيت مقالاً قبل أيام كانت بدايته يقول علماء النفس أنه في حالة الشعور بالغضب من الضروري أن تفرغ ذلك بأن تقوم بالصراخ في مكان بعيد، أو ضرب مخدة أو كيس رمل؛
رغم أن دراساتنا النفسية حقيقة تقول أن مناجزة (إدارة) الغضب Anger Management يحب أن تتم من خلال السيطرة على هذا الشعور والتحكم فيه، وفي حال صار الشخص يلجاء للكم الأشياء فإن حالة الغضب ستتطور لحالة من العدوانية كونها أصبحت مرافقة مع المدة بالضرب كأسلوب تفريغ حتى لو كان هذا الضرب موجها لكيسٍ من الرمل، وهذا المثال يشترك أيضاً مع الشكل الثاني من أشكال التضليل وتحريف الوعي والمعرفة بما قد نسميه "أشباه أو أنصاف الحقائق أو المعلومات".
(٢) ممر البديهيات: هنالك بديهيات يتمتع فيها الجميع، ولا تحتاج منا للتفكير كثيراً، مثال ذلك حين تقرأ جملة تقول "وكما تعلم فإن الحزن من المشاعر المؤلمة لكل إنسان" فهذه معلومة بديهية، ولكن ما يحدث أن بعض الناس بعد أن يعطيك معلومة بديهية قد يتبعها بتفسيرات مضللة وخاطئة، لكن كون المقدمة بديهية فيزيد مستوى اقتناعك بما يتبعها رغم أنه في بعض الأحيان لا يكون صحيحاً، وأيضاً قد ترى في مثال الغضب في النقطة السابقة جزئية توضح هذه النقطة.
(٣) من التسويق للتلفيق: أعجبني ما قرأته في إحدى المقالات حول أن التسويق الآن أصبح كتلفيق الأكاذيب في بعض الأحيان، فصار غلاف الكتاب الفاخر والدعاية الجذابة لهذا الكتاب تقنعك بأن هذا كتاب العصر رغم رداءة المحتوى العلمي فيه أحياناً، وصار اسم دورات التدريب الرنان يجذب الناس رغم محتواها الباهت وغير العلمي، وقفز البعض بألقاب ينتحلونها كلقب خبير ومستشار ومدرب، دون أن يكون للقب الفخم صلة حقيقية بعلم هذا الشخص وفهمه، فالعلم أصبح يلفق بدل أن يسوق، والعالم يلفق بدل أن يسوق والمتعلم يضلل في كل ذلك، وتجرأ البعض على إطلاق مسميات لما ادعى بأنها علوم سلوكية وإنسانية وكونية وطاقة، وكل ذلك يتم من خلاله فلسفات وقواعد وتجارب تضلل وعي الإنسان، كونه تأثر بالناحية التسويقية والاسم الفخم -ككتاب السر مثلا- فتبنى أفكاراً وفلسفات غريبة، مع قناعة ودفاع مستميتٍ عنها، فسبحان الله أصبحنا نجد الاستماتة في الدفاع عن الضلال أكبر وأقوى من الدفاع عن الحق.
(٤) أثر الهالة وحضور الإعلاميين: وتبعت ذلك بالتسويق والتلفيق لقربه من المفهوم في التضليل، وأذكر حين قامت إحدى الإذاعات بعمل مداخلة "للخبيرة التربوية" وهي متخصصة في مجالات التربية لتتحدث عن اضطرابات نفسية وقد قدَّرت عدد الأخطاء العلمية التي قالتها بثمانية أخطاء منهجية من عشر قواعد أعطتها لنصح الأمهات المسكينات اللواتي سممت عقولهن للتو وضللتهن عن الحقيقة وأساءت لأولادهن، وهؤلا المسكينات يتبنين أي شيء ويطبقنه مادام من مصدر إعلامي، ويقمن بمتابعة أسماء إعلامية لشهرتها وبهرجها رغم عدم كفاءة بعض أصحاب هذه الأسماء في تخصصهم العملي؛
ونفس الإذاعة في برنامج آخر أرشدت الناس لأهم عشر أخصائيين في الاستشارات النفسية والسلوكية والتربوية، وكل من ذكرتهم لم يوجد بينهم أخصائي واحد مرخص من وزارة الصحة الأردنية لتقديم الاستشارات، رغم أنهم لو قاموا بالاتصال بوزارة الصحة- قسم التراخيص لزودوهم بأسماء ١٠٠ شخص مرخص على الأقل من حملة الشهادات العليا.
بيت القصيد هنا أنه من أبواب التضليل وتحريف وعي الناس في بعض الأحيان أصبح الاعلام ذاته، كيف لا وهذا الإعلام باب تسويق الأشخاص والكفاءات أو هذا ما نظنه فيه، لكن للأسف فإن بعض القنوات الإعلامية لا تتمتع بالمصداقية، ولا حتى النزاهة والحرص على المعلومة لدرجة أن من يظهرون في الإعلام من مستشارين في معظم مجالات الخدمات سواء الصحية أو النفسية أو التربوية قام بعض منهم باحتكار بعض القنوات الإعلامية، وللإعلام والظهور الإعلامي هالة جعلت لهذا الإنسان تأثيراً في وعي وثقافة الآخرين، عدا عن دور بعض القنوات الفضائية الإخبارية في قلب الوعي والحقائق وإحاكة الدسائس والتحريش بين الناس.
وقد يكون معظم ما ذكرته في الأمثلة حول الاختصاص النفسي كونه اختصاصي، لكن ذلك ليس حكراً على الاختصاص النفسي، فسنرى هذا التضليل في علم السياسة والتاريخ، وللأسف فحتى علوم الطبخ لم تسلم من المرايا المحدبة والمقعرة.
فهذه أشكال المرايا المحدبة والمقعرة والتي لا تعكس الواقع والحقيقة لينمو الوعي ويتطور من خلال رؤية الواقع والحقائق ومقاييس الرؤية الصحيحة.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة4
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر