العبث بالعقل: الحلقة٤
"كلما ارتفع مستوى الثقة، كلما أصبحت مصدراً ومادة مناسبة أكثر لتضليل الآخرين" يوسف مسلَّم.
كنا قد بدأنا الحديث عن اليقظة الذهنية وتحريف الوعي، وقلنا أن هنالك أربعة مباديء لذلك، ثم قمنا بزيادة التوضيح لأول مبدأ وقسمنا الأساليب التابعة لهذا المبدأ لأربعة أساليب أيضاً، وأولها أسلوب تزييف الثقة، ووصفناه أنه أحد أساليب ما قد يصح فيه أيضاً تسمية "أنصاف الحقائق والمعلومات"، حيث نثق بمصادر بعض المعلومات ونعتبرها مصادر موثوقة، لكن يتم تزييف ذلك واستغلاله لاحقاً لتحريف الوعي، وفي حلقة اليوم سنتحدث عن بعض أبعاد الموضوع بشكل تطبيقات واقعية من حياتنا اليومية، ولذلك سنغطي النقاط التالية بأمثلة تطبيقية مختلفها مثل موضوع الثقة والأطفال، والثقة وقضايا المجتمع، والثقة والوعي السياسي، والثقة والاقتصاد، والثقة ونمط الحياة.
لكن ما هي المعادلة الأساسية لأسلوب تزييف الثقة، إن المعادلة الأساسية خلف أسلوب تزييف الثقة ذات ثلاث محاور أساسية وهي (عنصر الثقة - الفئة المستهدفة - أسلوب التزيف).
وسنضرب عدة أمثلة حول ذلك.
- الشخصيات الكرتونية المشهورة والمضحكة، لفئة الأطفال، بهدف تمرير رموز جنسية أو معتقدات منحرفة، وهذا ما نراه في بعض أفلام ديزني، فقبل سنوات تم ملاحظة مناظر جانبية أو في خلفية الفلم لرموز عقائدية أو جنسية، وهنالك شخصيات كرتونية صنعت بهدف أن يحبها الأطفال وتصبح قدوتهم ليتم في ما بعد تقليدها واتخاذها نماذج مهما كانت تفعل، فبراءة الأطفال وطبيعتهم التطورية النفسية تجعل من كل جذاب لهم من الشخصيات قدوة ونموذجاً، وعندما تستغل البراءة بهذا الشكل فيكون بهدف تشكيل وعي الطفل ليناسب وعيه ثقافة مخالفة لثقافته، فيخالف أهل وطنه وعقيدته، فبدل تجنيد عملاء للأعداء، يتم تحريف وعي الأطفال ليصبحوا أقرب للأعداء من بني جلدتهم، وما هي إلا سنوات حتى نرى جيلاً يحب عدوه ويعتبره أقرب صديق له مهما طغى في بلده، فيرى فكر وعقيدة بلده بمرآة محدبة.
- مادة التعليم في المدارس، تستهدف حدثاء السن من الأطفال والشباب، فيتم تحريف الواقع والتاريخ لتدجين الأطفال، فكما يقول الكاتب الأمريكي
المشهور توماس فريدمان «الحرب الحقيقية هي حرب المدارس، يجب تغيير المناهج لكي يقبل الطلاب سياستنا كما يحبون فطائرنا»، فحدثاء السن يثقون بكل شيء يسمعوه للمرات الأولى، والمنهج التعليمي والبيئة المدرسية والمعلم، كل ذلك مصدر معلومة وثقة للطلاب، لكن عندما يتم تزييف الثقة بتدجين الأطفال ليصبحوا أقرب للأعداء من بني وطنهم وعقيدتهم، فهذا من جديد تزييف للثقة، فيرى الوطن وابن الوطن بمرآة مقعرة.
- المحطات الإخبارية، فئة الكبار، تمرير أفكار سياسية أو تشويه الواقع السياسي، وقد تحدث الأمريكان على سبيل المثال قبل سنوات عديدة وبشكل علني عن تأسيس قناة الحرة لكسب الرأي العام في الشارع العربي، وهنالك قنوات كسبت مصداقية عالية على مدار عشر سنوات لكنها كانت تعمل ضمن "أجندة سابتة" أي في حالة سبات وبعد كسبها الشارع العربي بدأت أجندتها بالأفاقة وتزييف الثقة وقلب الواقع السياسي وحتى عروش الحكام، وقد أدخلت القنوات الفضائية أعدائنا لعقر بيتنا وأصبح الجميع يسمع رأيهم ووجهة نظرهم، فهذه القناة الفلانية جعلت من (المغتصب الصهيوني) مواطنا يعاني من الاضطهاد والهجمات، ويبرر ذلك بحجج تتفاجئ أنها أصبحت مقنعة للبعض بشكل يجعلنا نعي مقدار تزييف الثقه وتحريف الاتجاهات والرأي العام؛
وكمراسلة لقناة إخبارية مشهورة كتبت على صفحتها في الفيس بوك ونشرت فيديو عن مدى خطر مراسل عصابات الاحتلال الصهيوني (افيخاي ادرعي) وكيف أصبح يمارس دوراً في التأثير على وعي الشباب والشارع العربي، وما كنا عرفناه إلا حين أدخلته قناتها ذاتها لبيوتنا من خلال شاشتها منذ ١٥ عام حتى أضحى أكثر شهرة في الشارع العربي من الوزراء العرب؛
وحتى البارحة تستمر ذات القناة وغيرها باستضافة المتطرفيين وأعداء العرب والمسلمين وإن كانوا فعلوا ذلك بحسن نية فما رأيناه أن الثقة بهذة القنوات زُيفت بهدف قبول الأعداء ورأيهم في الشارع العربي وبالتالي تغيير اتجاهات الناس وتوجهاتهم، وبالعادة فإن العاطفيين المندفعين بعاطفة قومية أو وطنية دون وعي كافي، يقعون فريسة تصديق رموز وشعارات وجهات وقيادات قد تكون صنعت بهدف تزييف الثقة، وتحويل التوجهات البريئة الصادقة العاطفية إلى وجهات قد تكون تماماً بعكس ذلك، فالعاطفة حين تعلو على العقل تؤدي للاندفاع، والاندفاع هو آخر ما تحتاجه أوطاننا المكلومة.
- البورصة العالمية، فئة المستثمرين، الضربة القاضية بسحب الأموال، وهذا ما حدث في أزمة البورصة العالمية الأخيرة يشبه لحد بعيد قصة الرجل الذي استعار وعاء طبخ كبير من جاره ثم بعد يومين أعاد الوعاء الكبير وبه مقلاة صغيرة، ولما سأله جاره عن المقلاة قال له تصور لقد ولد الوعاء هذه المقلاة ليلاً، فظن الجار أن جاره أحمق، وبعد فترة طلب منه الوعاء الكبير مرة أخرى، فأعاره جاره إياه وعندما تأخر بإعادته للوعاء جاء جاره ليطالبه به، فبكى وقال له البقية في حياتك فلقد توفي ليلاً، فغضب الجار كثيراً متهماً له بالكذب، فقال له بمكر لقد صدقت أنه ولد ومن يلد قد يموت، وبالعادة فإن الطماع يقع في شباك النصاب عندما يزيف له الثقة، فيصنعها أولاً ليزيفها لاحقاً، فالرغبة بالغنى السهل السريع حين تطغى على التخطيط والمنهجية الإدارية تؤدي للوقوع في الاحتيال.
- البرامج الاجتماعية الأمريكية والأوروبيه، تستهدف المجتمعات العربية الفقيرة وقليلة الثقافة واللاجئين، تزييف الثقه بقبول مفاهيم غالباً ما تكون بعيدة عن مجتمعنا أو أنها قليلة الانتشار فيه، فخلال عملي في القطاع الإنساني لاحظت مدى انتشار البرامج الاجتماعية المستوردة، خاصة برامج المرأة وتحرير المرأة، والتي من خلال ملاحظتي قادتها نساء غالبهن يعانين من مشكلات في توجههن المجتمعي للأسف، واللواتي يحتجن هن أنفسهن لمساعدة في بيوتهن لافتقاد بيوتهن للأمان والاستقرار؛
وعلى ما يبدو فنحن نظن أننا نستورد حلولاً اجتماعية لبعض المظاهر الاجتماعية في مجتمعاتنا لكننا على الأغلب نستورد مشكلات المجتمعات الأخرى، فالحلول لقضايا مجتمع ما عند نقلها لمجتمع لافتراض وجود نفس المشكلة فيه تصبح مشكلة وتنمي المشاكل الأخرى، فهذا تزوير للثقة حيث يثق البعض بعلوم الغرب الاجتماعية فيقع فريسة شراء البرامج وتشغيل خبراء أجانب نظنهم سيحلون ما يبدو كمشاكل لدينا، لكنهم في الحقيقة يتغلغلون ويسببون اضطراب المجتمع العربي، ويبدو تأثير هذه البرامج قوياً حتى على الأخصائيين أنفسهم خاصة الإناث، فهنالك البعض منهن وبمجرد ما عملن في المؤسسات الاجتماعية ذات البرامج الغربية، اختلف سلوكهن على مدى خمس سنوات تقريباً، فاختلفت طريقة ملابسها وسلوكها إضافة إلى زيادة انتشار ظاهرة التدخين بينهن، وهذه ليست دراسة علمية لكنها ملاحظات لي ولعدة زملاء تستحق الدراسة والوعي لها.
إذاً فتزيف الثقة له معادلة أصيلة ولتلخيص عناصرها فهي كما يلي:
(١) عنصر الثقة: وهذا المحور يصف الرموز، أو الخلفية، أو المادة والتي تعتبر خامة عنصر الثقة، وغالباً ما يتم العمل عليها لصناعتها واكسابها ثقة عالية مثل الشخصيات الكرتونية أو القنوات الإخبارية، فالمظاهر تكسب الثقة، والمصداقية في البدايات تكسب الثقة، والصفة الرسمية تكسب الثقة، وبعض الأسماء والخلفيات المجمعية والثقافية قد تكسب الثقة.
(٢) الفئة المستهدفة: ويتم عادة اختيار عنصر الثقة بما يناسب طبيعة الفئة وطبيعتها النفسية والاجتماعية، مثل ضربة البورصة لقطاع الأعمال الصغيرة.
(٣) أسلوب التزييف: وعادة ما يكون مؤجلاً حتى يكتسب عنصر الثقة درجة عالية من المصداقية، ويستهدف أسلوب التزييف عادة جهل الناس أو براءتهم أو عواطفهم أو أهوائهم، ومنها أساليب صناعة الوعي والذي يستخدم مع الأطفال والجهلة والمتطرفين، أو تحريف الوعي والذي يستخدم مع المثقفين والمتعلمين، أو أساليب تضارب الوعي، وهو أصعبها على الواعين من خلال خلق حالة من التناقض المعرفي لزراعة الشك وتناقض اليقين.
إن الثقة كالجبال كلما صعدنا لقمة أعلى فقد يكون السقوط عن منحدراتها أكثر إيذاءً، فهنالك من يدفع الكثير الكثير لصناعة عناصر الثقة، مع علمه أنه سيسترد الثمن في أقرب وقت متاح.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة6
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر