براءةٌ من الله ورسوله، ومن المسلمين خاصةً ومن المؤمنين عامةً، ومن بني الإنسان كلهم أجمعين في جهات الدنيا الأربع، من الأحياء والأموات ومن الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، ومن الناطقين بكل لسان والساكنين في كل أرض، ومن المؤمنين بكل مقدس والمتعلقين بكل أمل، ومن المتعلمين والأميين، والمثقفين والجاهلين، ومن كل ذي لبٍ وعقلٍ، وقلبٍ وفؤادٍ، براءةٌ مطلقة من كل قاتلٍ ومعتدي، ومن كل ظالمٍ ومفتري، ومن كل مستعلي ومستقوي، أياً كانت جنسيته ودينه، ومذهبه وهويته، وثقافته وجهالته، وعلمه وسخافته، وهداه وضلاله، وحقه وباطله، ما دام قاتلاً يقطر الدم من سيفه، وظالماً لا يميز الحق ولا يستبين الهدى، ويحمل في عنقه المسؤولية عن أرواحٍ زهقت، ونفوسٍ قتلت، وأسرٍ حرقت، وبيوتٍ دمرت، وشعوبٍ شردت، ومستقبلٍ ضَيِّعَ، وبلادٍ تمزقت، وحرياتٍ فقدت، وكرامةٍ هتكت، وسيادةٍ نقضت.
بكل ما في اللغات كلها والأبجديات على تعدادها من كلمات الغضب، ومعاني الوجع والألم، والضيق والحزن، نبدي استنكارنا الشديد وتنديدنا العارم لما قامت به شرذمةٌ قليلةٌ غير محترمةٍ من مدعي الإيمان والإسلام، من المقاتلين زوراً وبهتاناً من أجل العزة والحرية والعدالة والكرامة، من حملة السلاح الملوث، العابثين بالأرواح والدماء، والمستهترين بالحياة والإنسان، الثائرين الضالين، الماضين بلا هدف، والسائرين على غير هدى، ممن تجمعهم الضلالة، وتوحدهم القوة الظالمة.
ألا إن القائد الفذ عماد الدين زنكي حامي مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموحد جيوش الأمة الإسلامية، الصابر المحتسب، البكاء العابد، الخائف الوجل، التقي الورع، ألا إنه برئٌ من هذه المجموعة الضالة التي تحمل اسمه، وترفع رايته، وتدعي القتال فيه شرفاً، وتتيه فخراً أنها تنتسب إليه، وتحمل فكره، وتعلي رايته، وهو منها براء، وعليها غاضب، ولعملها غير راضٍ، فهذا قائدٌ عظيمٌ من قادة الأمة الكبار، ومن رجالها الأماجد الثوار، ما كان ليرضى بما قامت به هذه العصابة المتوحشة، التي تدعي زوراً انتماءها إلى الإسلام ديناً، وانتسابها إلى أحد قادته العظام نموذجاً.
بل إنه يلعنها ويبرأ منها، ويستحي من الله عز وجل أن يذكر اسمه معها، وأن يستغل المجرمون الضالون لاسمه الشريف وعلمه الرفيع وهدفه النبيل، ليسوقوا من خلاله جرائمهم، ويرتكبوا باسمه موبقاتهم، ثم يدعون أنهم مسلمون موحدون، ووسطيون معتدلون، لا يظلمون ولا يعتدون، ولا يتطرفون ولا يتشددون، بل يتقون الله ويخافونه ويخشون عقابه، ويراقبون أنفسهم وأتباعهم خشية المعصية والزلل، والجريمة والخطأ، وهم أكثر من يعلم أنهم يكذبون ويفترون، وينافقون ولا يصدقون.
ليست المشكلة أن هذه المجموعة التي يبرأ الله منها ومن عملها، أنها ذبحت صبياً فلسطينياً صغيراً بريئاً جريحاً ضعيفاً أسيراً، غريباً لاجئاً باكي العين كسير النفس يسألهم الرحمة ويتوقع منهم الرأفة، بل إن جريمتها الكبرى أنها قتلت إنساناً فضلاً عن أنها ذبحت صبياً.
إنهم مجرمون أياً كان ضحيتهم، فلسطينياً أو عربياً، مسلماً أو مسيحياً، مؤمناً أو وثنياً، طالما أنه إنسانٌ ومن حقه العيش والحياة، فإن الإسلام لا يقبل منهم ما قاموا به، ولا يشجعهم على الجريمة التي اقترفوها، بل إن الدين يدعو للقصاص منهم، والانتقام من فعلتهم، وعدم السكوت عن جريمتهم، وعلى كل قادرٍ أن يحفظ وجوههم وأن يذكر أسماءهم، وأن يلاحقهم ولو تابوا، ويعاقبهم ولو ندموا، ويقتص منهم ولو أبدوا حزنهم وأسفهم، فهؤلاء مجرمون لا نقبل في الدنيا توبتهم، ولا نرضى بأوبتهم، ولا نغفر لهم زلتهم، ولا نسكت عن جريمتهم ولو أدعوا أنهم أجبروا على ما فعلوا، وأرغموا بالقوة على ما قاموا به، فهذا لا يبرر جرمهم، ولا يخفف عنهم سوء فعلهم وفحش سلوكهم.
إن الذين ذبحوا الصبي عبد الله عيسى مجرمون ولو بدت وجوههم جميلة، وأشكالهم وسيمة، وأجسامهم معتدلة، وألسنتهم غير معوجة، وشعورهم مسرحة، ولحاهم مهذبة، بل إن نفوسهم مريضة، وقلوبهم عفنة، وصدورهم صدئة، وضمائرهم ميتةً، ونواياهم خبيثة، ولن يصلح عملهم ندمٌ أو توبةٌ، ولن يرضَ عنهم الملك العادل، ليث الملوك، أمير المؤمنين، نصير المستضعفين وهادم لذة الصليبيين، أستاذ ومعلم الناصر صلاح الدين الأيوبي القائد الهمام نور الدين زنكي.
لا يكفي أن تعلن هذه الجماعة أن هذه العملية لا تمثلها ولا تعبر عنها، وأنها فعلٌ فردي وتصرفٌ شخصي، وأنها ستقوم بتوقيف الفاعلين ومحاسبة المخطئين، وأنها لن تتوانَ عن محاكمتهم وعقابهم، ذلك أنها تؤمن بالله وتلتزم التعاليم الدينية والمفاهيم الإسلامية، وأنها تحترم الأعراف الدولية والمعايير الإنسانية، فإننا فضلاً عن أننا لا نثق بهذه الجماعات وأمثالها، فإننا لا نصدق هذه الوعود ولا نؤمن بها، ولا نعتقد بجديتها ولا بنزاهتها، ونرى أنها وغيرها موغلةٌ في الدم، وماضيةٌ في الجريمة، ولا تستوقفها مبادئ الإسلام ولا عدالة القوانين.
ليست هذه هي الجريمة الأولى ولا أظن أنها الأخيرة التي ترتكب في بلادنا العربية، وهي ليست من فعل المدعين أنهم يقاتلون تحت راية القائد الإسلامي العظيم نور الدين زنكي فقط، بل إن الذين يرتكبونها وأمثالها كثيرون، من مختلف الجماعات والفرق، ومن المقاتلين مع الأنظمة ومن المعارضين لها والمحاربين ضدها، إذ أن الجميع قد اقترف مثلها وارتكب أسوأ منها.
وكما نبرأ من هذه الجريمة البشعة وممن ارتكبها، فإننها نبرأ من غيرهم أيضاً، ونعلن استنكارنا لفعلهم ورفضنا لأعمالهم، ولا نقبل من أحدٍ أن يقوم بمثلها تقليداً أو انتقاماً، ترويعاً أو ثأراً، تخويفاً أو دفعاً لخطرٍ وصداً لهجوم، ولا مجال لتبرير هذه الجرائم، ولا قبول للغةٍ معتدلةٍ في استنكارها، ولا لوسطيةٍ في التنديد بها، ولا مكان لمدافعٍ عنها أو داعٍ إليها، وعلى الأمة كلها أن تلعن من يقوم بها، وأن تدعو الله أن ينتقم منه وأن يثأر للضعيف والمظلوم منهم، فلا براءةَ لقاتلٍ، ولا عدل مع ظالم، ولا عفو عن مجرمٍ.
أما من عاقلٍ يصرخ، ومن حكيمٍ يقف ويخطب، أننا لا نريد هذه الحروب التي شردت نصف شعوبنا، وقتلت ودمرت نصفه الأخر، وخربت بلادنا وسوت بالتراب أوطاننا، أما آن لهذه الحروب الضروس أن تنتهي، ولهذه الفتنة العمياء أن تتوقف، ولهذه الطاحونة التي لا تكل أن تهدأ، ولهذا الظلم العنيد أن يردع، فقد والله أصابت منا هذه الحروب العظم وأكلت منا اللحم، ولم يعد في الأمة كلها موضعاً إلا وأصابته بنارها وأدمته بجراحها، وأوجعته بآلامها، وكوته بنيرانها، وها هو سيل الدم لا يتوقف، ومسلسل القتل والجريمة لا يعرف له نهاية.
واقرأ أيضاً:
المسلمون في ميانمار وأصحاب الأخدود