مجموعة من قصص نراها ونسمع عنها ونتعايش مع بعضها، هي بستان مختلف في شجراته ونبتاته، تجد من كل مكان حكاية ومن كل طبقة رواية، اختلف الأشخاص والأحداث والأماكن والزمن أيضا، تعيش مع كل قصة على حدة، وفي كل موقف تجد في نفسك أفكار تختلف عن ذي قبل وتجد شخصيتك أيضاً، ولن تتوقف مع الكلمات فهي ليست جبالا صلبة الشكل، لكنها لها إحساس، وتجد في الجمل مشاهد، وتصور للموقف كأنك تراه حقا، رسم الكاتب رسم بارز بالكلمات تتحسسه عيناك وهي تدور حول الأحداث أو كأنه عمل درامي مكتوب.
كان لي بعض التحفظ في بعض الأحداث والكلمات، والتي إن وجدت في مكان فهي موجودة به بالفعل في حقيقته، فلم يزايد كاتبنا في الحقيقة شيء، ولكن مع بعض النسمات الرقيقة قد تصيب العين ذرة تراب.
تجد من خلال القصص الخمس، خمس مجتمعات متفاوتة قد تقارن بعضهم ببعض وقد تواجه مبادئ البعض بالآخر وقد تحتار فيمن تختار في اللجوء إليه لو أردت السكينة أو الاستقرار فكل منهم له حياته... ولحياته طقوسها الخاصة.
لو رأينا كل منهم على حدة فسنجد الفقر والبحث عن القوت وطرق كسب العيش (سندس)، وتقلب الزمن وتخبطه وتغير النفوس كما في (فنجان قهوة)، ونجد المبادئ والبحث عنها واللجوء إليها والأحتماء فيها بين مبادئ الريف وبين حريات الغرب، سنجد تغير الإنسان بالمواقف والأحداث، وقد تنجي الكلمة وقد تغرقه كما حدث في (النافذة).
ترى النهايات المفتوحة في الجميع والتي تجعل ذهنك لا ينتهي من التفكير حتى ولو انتهت عيناك من القراءة، وقد تكون مفتوحة لاختلاف وجهات النظر من حالة إلى أخرى ومن شخص لآخر، فيحلل القارئ نهاية القصة بناء على فكرة وشخصه وأسلوبه ونمط حياته..... كثيراً ما أبحث مع النهاية المفتوحة عن النهاية التي أتصورها، ولكن هيهات أن أجدها ولكن قد أجد نهاية مختلفة مع كل مرة فيها أعاود القراءة...
في كل قصة من الخمس قصص كنت أتخيل تكملة القصة قبل نهايتها أو أتحاشى نهايات متوقعة، وكانت تسري الأحداث داخل كل منهم بسرعات متفاوتة، كالبحر يهدأ قليلا ًثم يعاود بضرب شواطئه بالموج العاتي، وهكذا شعرت.
في السماء خمس نجمات أضائت بهن، ولكن منهم من كان ذا بريق أخاذ وآخر كان أقل إضاءة ووهجا، كانت فنجان قهوة وبالأمس حلمت بك ذات ضوء براق، وأقل منهما كانت نصيحة ثم تأتي سندس والنافذة. وهكذا أبدا مع كل منهم.....
فنجان قهوة
انتهت كما ينتهي فنجان القهوة، فتركت وراءها أثرا في القلب كما تترك القهوة علاماتها على الفنجان، والعلامات لها دلالة ووقائع وتأثيرات، كانت مشهدا من مشاهد حياتنا، نسمع عنه ونراه ونتحدث عنه ومن المواقف الموثرة التي يتأثر بها القلب ويتفكر فيها العقل..... الموت الفاضح أو الغاضب، تتحطم الحياة والأحلام وتنتهي بالموت، قد يكون الموت للمتوفى لكنه في أوقات يكون موت للحي، أحلام تتوارى وراء غمامات الحياة، ويأتي الليل ولا يعاود أدراجه لرحيل فيبقى بعتمته، وسواده... محيطا بالجميع، الصغير منهم والكبير، وتطول أمواجه كل السفن، فتغرق في بحورالظلمات... وقليلا ما تنجو.
ترى في فنجان القهوة حلم الزواج من المحب، والأب الحنون الذي يذهب ويذهب معه الحنان والحب أيضا، تجد من تراوده نفسه للبيع والشراء في النفوس، ولا يهتم بصلة الدم وإن وجدت، تجد الأم الثابتة قليلا والحزينة التي ترى الدنيا بحقيقتها بعد أن انكشفت ستائرها، تراها ترضى بطعم الترياق، حتى لو صاحبته بعض المرارة حتى تعبر من محنها، وتجد الطفل ببراءته وبراءة كلماته، تجد الفتاة الحالمة والسابحة في أحلام وأوهام ترتدي فيها ثوب السواد ولا تدري هل سيبقى أم سيزول، هي لمحة من لمحات تقلبات الزمن وآهاته، تقلب الزمن بين يوم وليلة، وما يصحبه، تغير في النظرات والكلمات والأفعال؛
هل يتغير الزمن بالموت حقا ًأم تزال ساتر الحقيقة فقط عن حقائق الأمور، وهل لو كان الأب موجودا كان الحال سيبقى مستورا.....أم ستتكلم عنه الألسنة وكيف تدور الأمور في بوتقة الحياة، لا أعلم وأنا أقرأ فنجان القهوة تذكرت قول الله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} النساء صدق الله العظيم، هل لنا أن نتدبر هذه الآية الكريمة في أحداث فنجان قهوة، هل لنا نظرة في أنفسنا وفي أفعالنا هل نتقي الله حتى نتحاشى الزمن وتقلباته ليس فينا فقط بل في أبنائنا أيضا، هل لو عادت الحياة لهذا الأب، ونظر لحال الزمن من بعده هل كان سيترك الخمر والسرقة و... ولن تعود الحياة له..... ولكن لنا عبرة.... ويا ليتنا نعتبر.
بالأمس حلمت بك
روح التناقض والغموض، وتقابل الآراء وتصاعد الحوار وصمته، البحث عن الروح وإزالة الحاجز المادي من الحياة الرتيبة التي تتكرر، وساعة الزمن التي تدور ولا تتوقف.
رأينا حياة الشرق في الغرب ونظرات الغرب للغرباء ومهما كانت طبائعهم، رأينا بحث الشرقي عن شمس بلاده حتى ولو كانت بين الغيوم والثلوج وبرودة النفوس، رأيناه يحطم صقيع الغرب بالعودة والبحث في الصحراء والبحر والسماء عن مفقوده، ورأيناه كطير لابد لرجوعه لموطنه حتى ولو بعد عنه كثيرا.
قد تمثل صورة من صور حياة الشباب في الخارج، والتي يحلم بها الكثير ويحسدهم عليها، ولكن منها ننظر إلى جهة أخرى لنشهد تفاصيل جانب منهم مستقر مادي ولكنه يواجهه صعوبة استقرار نفسه، وبين الصوفية والتصوف وأحلام الغرب ولقاء الأرواح، والبحث عن الأمان، والهروب من الواقع ومن أحلامه وأوهامه.... وجدا بالأمس حلمت بك.
نصيحة من شاب عاقل
وكانت هي النصيحة الأخيرة التي تلقى على أذن، والتي قد تلتقطها الأذن وقد تتفادها، مشهد في حقيقته لن يأخذ سوى دقائق، ولكن عنده تتوقف كثيرا، نصيحة من شاب لعجوز وقد تقال لشاب أيضا، ركز كاتبنا على العمل والعلاج والبعد عن الموبقات، هل له أن يساعد وينصح ويتجاهل ويعبر ويمر، وهل يخفي الأفيون البصيرة والعقل، ننظر لشخص عم خليل، الذي يلاحقه ومن المؤكد أنه يلاحق الكثير غيره، ومن طلباته التي تتصاعد ومن كلماته التي تتغير، ومن شهاداته التي تتحور، وكل هذا لتخدير العقل ولذهابه حيث لا يأتي.... ولا يأتي بخير أبدا من بعده، نرى من شخوص خليل الكثير في حياتنا، ونرى من صورته الكثير، وأجد هنا نصيحة لنا جميعا، فيمن نراهم في الطرقات ويطلبون المساعدة، من أجل علاج وطعام أو غيرهما، وقد يرق الكثير لهم ويعطي لهم من ما رزقه الله، ولكن لا يعلم هو هل ماله ذهب في مكانه، أم أخطأ الطرقات، وضل، كنت أجد نظرة التعالي من شاب صغير على رجل عجوز ضعيف، ولكن ومع تخطي كلمات اعتدنا سماعها، انقلب الرأي ورأيت فيها نصيحة ليست للعجوز، ولكن لي أنا، نصيحة للتًروي والترقب، وأخذ الأمور مأخذ الجد، وبعض منها لا تفيد العواطف التي قد تزيد الطين بلة ولا تنفع بشيء بل تضر.
سندس.
تجد فيها طابع من الريف البعيد، وتجد البيت وأركانه وتجد الدلالة التي تسير للبيع وللتقاضي وللبحث عن لقمة العيش، وتجد الحوار الجاف أحيانا في بيوتنا الريفية، وتجد تبدل الحال في لحظات بكلمات، شاهدت من هذه المواقف كثيرا تدور أمامي، ولكن لم أكن أبحث في ثغرتها كما فعلت مع سندس، وها هي شريحة جديدة في بلادنا التي تمتلىء من كل حدب وصوب، وتجد احتضان القرية حتى للغرباء عنها واحتوائهم.
النافذة.
زاوية حساسة رصدها لنا الكاتب وكان فيها تخبط القيم وانحطاط الأخلاق، لكن كان بما فيها مأساوي محزن للقلب حقا....
قراءة نقدية لكتاب (بالأمس حلمت بك) للكاتب أ. بهاء طاهر
واقرأ أيضاً:
للسلطة فتنة... لكن لصبرنا حدود / هم يترنمون بالخوف... ومصر تأبى / ليلة سفر.... رؤية نقدية / ماحيها... ولست حاميها / اللحية والنقاب.... وسياسة الهروب من العقاب / مسافر على الرصيف - كتابة نقدية