حين تدخل حديقة الهايدبارك الشهيرة في وسط لندن من ناحية الـ Marble Arch تلاحظ وجود ثمثال ضخم لرأس حمار أبدع فيه الفنان أيما إبداع لدرجة أنه شدني ووقفت أتأمله وأسأل نفسي لماذا الحمار بالذات, ولماذا رأسه بالتحديد, وكيف صنع هذا الفنان العبقري كل هذا الجمال من حيوان جعله كثير من الناس رمزا للغباء والبلادة, واعتبروا اسمه سبا وشتما ونقيصة... هل هذا رد شرف للحمار, أم دفاع عن كرامته, أم محاولة رؤيته من زاوية أكثر رقيا؟؟
لقد اكتشفت أن تمثال رأس الحمار الشهير أقرب لصورة الموناليزا (التي رأيتها عن قرب في متحف اللوفر بباريس) من حيث قابليته لإعطاء كل الإيحاءات المطلوبة, فتستطيع أن تراه حيوانا بطيئا أو العكس حيوانا متمهلا (وئيدا), وتستطيع أن تراه بليدا والعكس حيوانا فيلسوفا رزينا (كما شبهه وأحبه توفيق الحكيم), وتستطيع أن تراه بريئا مسالما والعكس حيوانا ماكرا في صمت ودهاء, تستطيع أن تراه مستسلما والعكس حيوانا يخزن غضبه للحظة "يحرن" فيها ويمارس عنفا صوتيا "نهيق" وجسديا "رفس" و"تقميص".
الحمار هو الحيوان الذي ركبه الأنبياء والمصلحون والفلاسفة عبر التاريخ, وأحبه الكثيرون منهم واعتبروه جزءا من تاريخ الحضارة, وهو الحيوان المسالم الذي لم يثبت تورطه في الحروب أو الصراعات فهدوئه وسرعته البطيئة نسبيا لم تؤهلانه للاستخدام في الحروب, وهو حيوان متواضع لم يتباهى به الناس (كما فعلوا مع الحصان مثلا), ولم يستعرضوا به قوتهم أو جاههم, وهو حيوان حمول لأقصى درجة.
وعلى الرغ من شهرته بالغباء إلا أنه من الحيوانات القليلة التي تعرف طرق العودة إلى البيت أو الحظيرة, وهو يرفض الخوض في البرك المائية أو الأنهار أو البحار خوفا على حياته. وهو الحيوان الذي يعلن عن حبه بشكل جهوري حيث يصدر صوت "النهيق" المرتفع حين يرى حمارة أو يشم رائحتها من بعيد خاصة في فترة التبويض لديها, أي أنه حيوان رومانسي يعلن عن رومانسيته بطريقة جهورية.
تلمح في وجهه مزيجا من مشاعر الصبر والرضى والقناعة وطول البال والحكمة العميقة والتأني والتواضع والهدوء والسماحه والوقار...... حقا إنه الحمار.
وعلى بعد أمتار قليلة من رأس الحمار في حديقة الهايدبارك رأيت ركن المتحدثين Speakers Corner وهم مجموعات من البشر من كافة الأجناس والأعراق والأديان والطوائف والتوجهات يتلاسنون ويتصايحون ويتراشقون بالألفاظ, كل يدافع عن هويته أو دينه أو معتقده السياسي ولا يصلون إلى توافق أبدا فهم قد جاءوا ليختلفوا ويتنابزوا بالألقاب ويتعالوا بالإنتماءات والطائفيات والعنصريات, وهنا فضلت أن أعود وأجلس في هدوء ووقار في ساحة رأس الحمار.
واقرأ أيضًا:
تأملات في المشهد التركي / المتلاقيان