حين كنّا صغارا نلعب الكرة في الشوارع وفي الساحات كنّا نجد صعوبة في تكليف من يلعب حارس مرمى, إذ كان ينظر في ذلك الوقت إلى حارس المرمى أنه الشخص صاحب المهارات الأدنى في الكره فهو لا يصلح أن يكون مهاجما أو مدافعا أو لاعبا في خط الوسط, وأحيانا كان يتم اختيار الأكثر جرأة واندفاعا والأضخم جسدا ليستطيع مواجهة المهاجمين الخطرين وبث الرعب في نفوسهم وربما إحداث إصابات لهم تجعلهم يترددون في الاقتراب من المرمى.
وحارس المرمى يتعرض لإصابات خطرة لأنه يواجه لاعبي الخصم وهم في أشد الحالات اندفاعا وتوترا لإحراز الهدف, بل وتتوقف النتيجة عليه وحده في حالة الوصول لضربات الجزاء الترجيحية, وهو مع ذلك محروم من شرف إحراز الأهداف وتصفيق الجمهور, ومحروم من التجول بحرية في الملعب, وكأن إقامته محددة في منطقة بعينها لا يغادرها.
ويبدو أن هذه العوامل قد أثرت في نفوس حراس المرمى في نادي مدينتنا الصغيره والقديمة, وذلك حين صعد أحد حراس المرمى إلى منصب المدير الفني للنادي ورأى أن النادي العريق يخسر أكثر مبارياته, فاستهوته فكرة اعتبرها وزملاؤه حرّاس المرمى (الأصلي والاحتياطيون) فكرة عبقرية, وهي أن يسرحوا سائر اللاعبين على اعتبار أنهم فاشلين ثم يشكلون الفريق كله من حرّاس المرمى بحيث يقف أحد عشر لاعبا بين الثلاث خشبات للفريق فيشكلون حائطا بشريا منيعا يصعب معه على الخصم تسجيل أي هدف؛
ثم ينتهزون فرصة أي هجمة مرتدة فيندفع واحد أو اثنان من حرّاس المرمى محاولين تسجيل هدف في مرمى الخصم إن تمكنوا من ذلك, وإن لم يتمكنوا فيكفي الفريق أنه منع أي كرة تدخل في شباكه بهذا الحائط البشري من حراس المرمى ضخام الأجساد. ويبدو أن خطتهم نجحت إذ أصبح من الصعب على الفرق المنافسة تسجيل أي هدف, ولكن الناس افتقدوا متعة الكرّ والفرّ الطبيعية في الملعب, وافتقدوا الاستمتاع بالمهارات المتنوعة للمهاجمين والمدافعين ولاعبي خط الوسط, وأصبحت المباراة كلها عبارة عن تسديدات صاروخية تصطدم بحائط بشري أصم.
وانقسم المعلقون الرياضيون (وأيضا الجمهور) بين مؤيد لهذه الفكرة العجيبة التي لم يألفها الناس وبين معارض لها ويعتبرها نوعا من الغباء المتكلس والمتحجر لا يليق بلعبة جميلة ككرة القدم تحقق الاستمتاع من خلال مهارات مختلف اللاعبين ومن خلال أهداف تسجل هنا وهناك (فالكوره اجوان كما يقولون). ولم يكترث حراس المرمى بالانتقادات بل واصلوا تنفيذ خطتهم التي اعتبروها عبقرية على الرغم من أنهم لم ينجحوا في إحراز هدف واحد على مدى مواسم كروية متعددة باستثناء مصادفات تحدث في ضربات الجزاء الترجيحية, وكانوا يهللون كثيرا لهذه المصادفات ويعتبرونها انتصارات كروية تاريخية. وقد قاموا بتسريح بقية اللاعبين ورفعوا مرتبات حراس المرمى واستقدموهم من سائر الفرق وأضفوا عليهم كل صفات البطولة وجعلوا لهم زيّا خاصا يبعث على الهيبة وربما الخوف.
ولم يكتف حرّاس المرمى بذلك بل سرحوا أعضاء الجهاز الفني والإداري, إذ لم يعد لهم احتياج في هذا النظام الجديد للعب, ولم يعد يهمهم تشجيع مجموعات الألتراس أو حتى المشجعين العاديين لأن حائط الصد البشري الذي يشكلونه لا يحتاج أي شئ من هذا, وسرحوا العاملين في البوفيه والكانتين والنظافة والصيانة وأتوا بحرّاس مرمى يقومون بهذه الوظائف, إذ رأوا أن حارس المرمى غالبا ما يتمتع بلياقة بدنية عالية فهو يصلح لأداء الوظيفة الخدمية إضافة لكونه عنصرا فعالا في السيطرة على شغب الملاعب إذا حدث.
وحين اعترض اتحاد الكرة على هذا التغيير الغريب في فلسفة اللعب وفي تغييرات الإدارة والأعمال الخدمية رد عليه المدير الفني للنادي (وهو كما قلنا حارس مرمى أيضا) بأنه لا يوجد قانون يمنع بأن يكون الفريق كله من حرّاس المرمى, وجاء الإحتجاج أيضا من الفيفا وكان نفس الرد جاهزا, فأسقط في يد الجميع ورضوا مكرهين بالأمر الواقع, ولكن المشكلة الآن هي أن الجمهور عزف عن الذهاب لمشاهدة المباريات إذ لم يعد هناك لعب ومهارات تحقق الإثارة والاستمتاع, بل إن النتيجة معروفة سلفا وحائط الصد البشري لحراس المرمى سعيد بالتعادل السلبي وسعيد بانقسام المعلقين والجمهور بينما بقيت مدرجات النادي "الخالية" حزينة على غياب المشجعين وغياب الكرة المستديرة.
واقرأ أيضًا:
المتلاقيان / ستون عاما