منذ اقتربت من الستين أصبح لديّ هواية التجوال في الأماكن القديمة التي قضيت فيها طفولتي وشبابي مع اجترار الذكريات حلوها ومرها، وفي أحد الأيام ساقتني قدماي إلى حيث مدرسة الرفاعي الابتدائية التي قضيت فيها أولى سنوات العمر فوجدت بقاياها ما زالت قائمة، ووقفت أمامها في إجلال وخشوع أتأمل أركانها فقد كنت أحفظ كل شيء فيها، هنا كنا نقف طابور الصباح نستمع نصائح وتعليمات المدرسين والسيد ناظر المدرسة ثم يتبع هذا نشيد "بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" ثم نؤدي تحية العلم بحماس شديد لكي نصعد بعد ذلك إلى الفصول.
كانت الفصول من الأولى إلى الرابعة في الطابق الأرضي، بينما السنة الخامسة والسادسة فكانت في الطابق العلوي. أتذكر من تعلمنا على يديه في السنة الأولى الشيخ محمود أبو يوسف وكان رجلا معمما ويرتدي جبة سميكة وقفطانا وتميل هيئته إلى مشايخ المساجد وكان حازما سريع الغضب لا يسمح بالخطأ خاصة فيما يخص مادة الدين وبالذات مبادئ العقيدة وأذكر أنه ضربني بعنف شديد حين لم أعرف أين يوجد الله؛
ثم انتقلنا بعد ذلك من السنة الثانية وحتى الرابعة إلى أخيه الأستاذ محمد أبو يوسف وكان أيضا معمما ولكنه يلبس لباسا فضفاضا أنيقا يعطيه حرية أكثر في الحركة وكان طيبا سمحا أحببته كثيرا لأنه كان يحكي لنا قصص الأنبياء وكنت وقتها -وما زلت- مولعا بالقصص، وحين لاحظ هذا الولع القصصي عندي كان يطلب مني أن أقف على الكرسي أمام السبورة وأعيد على زملائي ما قصّه علينا وحين أنتهي يصفق لي الفصل فأشعر بفخر ونشوة.
وفوق باب غرفة ناظر المدرسة كانت تعلق صورة كبيرة للرئيس المهيب عبد الناصر ومكتوب تحتها "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"، وكنت أحب هذه العبارة وأقرأها كل يوم حين ننتهي من الطابور وتحية العلم، وأتدرب على أن تكون رأسي مرفوعة طول الوقت لأؤكد للرئيس المهيب والمحبوب أن النصيحة قد وصلت وتنفذ، وكنت أتجنب أن أحني رأسي في أي موقف مهما كانت الظروف وأعتبر انحناء الرأس إهانة شخصية ووطنية ومخالفة لنصيحة الزعيم معشوق الجماهير.
وحين انتقلت إلى السنة الخامسة كان عليّ أن أصعد كل يوم للفصل في الطابق العلوي، وكنت فرحا جدا بأنني أصبحت في الفرق العليا في المدرسة ولم أعد صغيرا، وسيدرس لي الأستاذ سيد عبدالحافظ في السنة الخامسة والأستاذ موريس ابراهيم سمعان في السنة السادسة وكلاهما يلبس بذلة أنيقة وكرافته وهما فوق ذلك في سن الشباب ولا يميلان إلى استخدام العصى في التعليم، ولكن كان يضايقني وجود كمره حديد في مطلع السلم للدور العلوي تضطرني لكي أحني رأسي حتى لا أصطدم بهذه الكمره، وبما أنني لا أحب أن أحني رأسي فقد اصطدمت رأسي عدة مرات دون أن أدري، ثم بعد ذلك تعلمت أن أثني ركبتي قليلا وأنا أمر من تحتها حتى أتجنب انحناء رأسي.
وما زلت أذكر تلك الساحة الواسعة أمام مدرستي الابتدائية والتي كان يحدها من الشمال مدرسة الشيخ اسماعيل ومن الجنوب مسجد سيدي مجاهد ومن الغرب نقطة شرطة، وكانت هذه الساحة المكان المحبب لنا للعب الكرة وممارسة كل النشاطات المحببة لنا كأطفال، وقد اعتدنا أن نوقف اللعب وقت الأذان وندخل إلى مسجد سيدي مجاهد نتوضأ ونصلي ثم نستأنف اللعب. وكان هناك سبب آخر يجعلنا نتوقف عن اللعب وهو سماع صوت صراخ أحد المحبوسين في غرفة الحجز في نقطة الشرطة، وكان الصراخ يستمر لدقائق وأحيانا لساعات، وهو صراخ مؤلم يصعب على من يسمعه أن يتجاهله؛
وكثيرا ماكنا نقترب من شباك غرفة الحجز فنستمع لأصوات ارتطامات عنيفة يزداد معها الصراخ، وفي يوم لا أنساه انفتح شيش شباك الغرفة ورأيت من بين قضبان الحديد شابا يصرخ ويتعلق بالحديد وقد غطى الدم وجهه وأجزاء من جسده، ووقفنا حائرين كأطفال لا ندري ماذا نفعل، وكل ما أذكره أن صورته ظلت تطاردني كثيرا في أحلامي، وظللت بعدها لسنوات طويلة أشعر بالقلق والخوف كلما اقتربت من مركز للشرطة وأتجنب دخول هذه الأماكن إلا للضرورة القصوى.
وأخذتنا السنين وسافرت هنا وهناك واحتفظت بأرشيف كبير لذكريات هذه المنطقة الهامة في بلدتي القديمة، وعدت بعد أن بلغت الستين لأقف وسط الساحة وأنظر ناحية الشرق إلى مدرستي الحبيبة التي تخرّج منها -على صغرها- رجالا وعلماء محترمين وأنظر ناحية الشمال إلى مدرسة الشيخ اسماعيل التي تخرّج منها أيضا عدد كبير من الأعلام في الطب والهندسة والتجارة والزراعة والتعليم وغيرها، وأنظر إلى الجنوب لأرى مسجد سيدي مجاهد وقد تم بناؤه من جديد وأصبح يشغل مساحة كبيرة عن ذي قبل؛
ثم أتوجه في حذر ناحية مبنى نقطة الشرطة وقد أصبح خاليا الآن حيث تحولت النقطة إلى مركز يحتل مساحة كبيرة في شارع البحر في مدخل المدينة وحوله متاريس كثيرة تكاد تغلق معظم الشوارع من حوله، ودفعني فضولي لأن أقترب من غرفة الحجز في المبنى المهجور وامتد بصري لأرى على أحد جدرانها صورة جماعية للرؤساء المتعاقبين مكتوب تحتها:
ستون عاما أنحني
مذ كنت يوما سيدي طفلا رضيعا
واليوم تأمرني لأرفع هامتي
فبكل أسف سيدي .. لن أستطيعا !!
واقرأ أيضًا:
حرّاس المرمى / بوّاب العمارة