مهاتير محمد، الملهم والمفكر والمنفذ
زرت ماليزيا أكثر من مرة, ولكن هذه المرة حاولت الاقتراب من عناصر هذه التجربة الإنسانية العظيمة وهذا التحول الهائل من مجتمع متخلف ملئ بالفساد والصراعات الطائفية والفقر إلى مجتمع صناعي متطور ومتناغم ومتعايش ونظيف.
تحتاج نهضة أي شعب إلى ثلاثي: الملهم والمفكر والمنفذ, فالملهم قد يكون شخصا أو مؤسسة أو حزب أو فكرة, ولكن في شعوب العالم الثالث يغلب أن يكون شخصا ذا مواصفات قيادية وشخصية متميزة يحرك الجماهير ويحفزها نحو تحقيق أهداف النهوض والتطور, إذ يغلب على الناس الركون إلى ما اعتادوا عليه وألفوه, لذلك تكون لديهم مقاومة للتغيير حتى ولو كان في صالحهم, وعلى القائد أن يقنع الناس بالتغيير ويساعدهم على التغلب على مقاومتهم له, والبداية أن يكون هو محبا لأهله وناسه وواثقا في قدرتهم على التغيير, وأن يكون مخلصا وصادقا وأمينا فلا يتلاعب بمشاعرهم الدينية أو الوطنية, ولا يمارس خداعا تاريخيا, ولا يكتفي بشعارات نرجسية فارغة.
هكذا كان مهاتير محمد صانع نهضة ماليزيا فقد كان طالبا جادا ومجتهدا, تفوق في دراسته الإبتدائية والثانوية فنال شرف التعليم المجاني في كلية الطب وأصبح طبيبا جراحا ناجحا خصص نصف وقته لتحقيق مكاسب شخصية من مهنته والنصف الآخر لعلاج المرضى بالمجان.
عمل بالخدمات الطبية بالجيش لفترة ثم انتقل للعمل الطبي المدني في مستشفيات الحكومة ثم استقل ليعمل في عيادته الخاصة, وحقق مكسبا جيدا مكنه من ركوب سيارة فاخرة وكان لديه سائق صيني -وهذه من علامات الرقي الإجتماعي-, ثم التحق بالعمل الإجتماعي والسياسي ليحقق النفع لأكبر عدد من الناس في المنطقة التي ولد وعاش فيها, وتدرج في العمل السياسي لفترة لا تقل عن 40 عاما حتى نضج تماما كان خلالها عضوا ناجحا في البرلمان ثم وزيرا للتعليم ثم وزيرا للصناعة والتجارة حتى أصبح رئيسا للوزراء منذ عام 1981 م إلى عام 2003 م حيث كان الملهم والقائد لفكرة النهضة بالشعب الماليزي الذي كان شعبا فقيرا للغاية (52 % كانوا تحت خط الفقر) وكسولا للغاية ويعيش على الزراعة والصيد وغالبيته غير متعلم لينقله في عدة سنوات إلى شعب متعلم بل ويجيد الصناعات الإلكترونية الحديثة والمتقدمة.
كان يقول إن أهم ثروة في أي بلد هي البشر, ولهذا قام بتنمية البشر فأنشأ عددا كبيرا جدا من المدارس الفنية والمهنية المتخصصة في الصناعات الحديثة, وأنشأ جامعات متميزة لها ترتيب متقدم وسط جامعات العالم. وعلى الرغم من انتمائه للأغلبية المسلمة في ماليزيا والتي تشكل 65% من الشعب الماليزي إلا أنه كان يحترم بقية الطوائف والأقليات ويمكنها من أداء شعائرها الدينية في حرية تامة وأمان ويمكنها من العيش في تناغم وتوافق مع بقية الطوائف والمجموعات العرقية, فهو بحق مهندس التوافق المجتمعي والتعايش بين الأديان.
وله تعبير هام يقول فيه: "إذا أردت الصلاة أتوجه إلى مكة, وإذا أردت العلم والتكنولوجيا أتوجه إلى اليابان". وكان أول كتاب له تحت عنوان "معضلة المالايو", وهو يناقش مشكلات الشعب الماليزي وعوائق النهضة لدية ويشخص أمراضه السياسية والدينية والطائفية والنفسية ويضع مخططات للنهوض به من خلال معالجة أمراض الفساد والانقسام والكسل, فانتقل بهذا الكتاب وبغيره من الكتب اللاحقة من موقع الملهم إلى موقع المفكر, وحين تقلب في العمل السياسي اليومي كنائب في البرلمان ثم كوزير وأخيرا رئيسا للوزراء لمدة 22 عاما كانت لديه الفرصة ليقوم على تنفيذ أفكاره الإصلاحية التنموية, وبذلك استكمل الأدوار الثلاثة: الملهم والمفكر والمنفذ, وكان هذا سر نجاحه.
ويتبع>>>>>>>> : أصداء رحلة ماليزيا 2
واقرأ أيضًا:
بوّاب العمارة / قاهر العفاريت