↵
أصداء رحلة ماليزيا 1
مهاتير محمد الفقير بائع الموز... صانع النهضة
ولد مهاتير محمد في "ألوستار" بولاية قداه عام 1925 م وهو أصغر تسعة أبناء, والده مدرس ابتدائي فقير من أصول هندية, وأمه ربة منزل من أصول مالاوية, وربما هذه التشكيلة العرقية هي التي جعلته يؤمن بالتعددية الثقافية والعرقية ويحافظ على التوافق والتعايش بين الأديان والطوائف مما جعل المجتمع الماليزي في حالة تناغم وتعايش وانطلاق نحو الإنتاج تحت مظلة المواطنة التي تتقبل وتحترم الجميع.
خلال فترة الحرب العالمية الثانية وأثناء الإحتلال الياباني لماليزيا عمل مهاتير محمد ببيع فطائر الموز والوجبات الخفيفة والقهوة ليساعد أسرته على العيش. وفي طفولته التحق بالمدارس العامة ثم واصل تعليمه في كلية السلطان عبدالحميد ثم في كلية الملك إدوارد السابع الطبية في سنغافورة, وقد حصل على منحة تعليمه المجانية بسبب تفوقه الدراسي. لم يكتف بالتفوق الدراسي في الجامعة بل انخرط في النشاط الطلابي من خلال رئاسته لجمعية الطلبة المسلمين في الكلية وتحريره لمجلة طبية طلابية ومساهمته بالتحرير في مجلة "سترتس تايم".
بعد التخرج في عام 1953 م خدم مهاتير في الحكومة الماليزية الاتحادية كضابط خدمات طبية, ثم ترك الخدمة الحكومية في عام 1957 ليمارس عمله الخاص به في ألوستار. نجح مهاتير في أعماله الخاصة مما مكنه من امتلاك سيارة "بونتياك كاتالينا" عام 1959 م متخذا سائقا خاصا من أصول صينية. لديه 8 أبناء من زوجته ستي حازمه محمد علي.
انتخب عضوا بالبرلمان عام 1964م, ثم خسر هذا المقعد في الإنتخابات التالية عام 1969م. وواجه مكشكلات كثيرة بعد أن انتقد رئيس الوزراء حينئذ "تنكو عبدالرحمن" بعد أحداث شغب 13 مايو 1969, حيث انتقد طريقة إدارته للبلاد وإعطائه الأولوية للمواطنين ذوي الأصول الصينية مما اشعل شرارة الصراعات الطائفية, وكان هذا الموقف دليلا على توجهات مهاتي محمد التوافقية وميوله نحو العدالة والتعايش بين كل الناس.
لم يكن مهاتير محمد مجرد طبيب او سياسي ولكنه كان أيضا مفكرا وكاتبا حيث وضع كتابه الأول "معضلة المالايو" الذي سعى فيه لشرح أسباب أحداث 13 مايو في كوالا لامبور, والأسباب التي تحول دون التقدم الإقتصادي للمالاوية. وقد حظرت حكومة تنكو عبدالرحمن نشر الكتاب على الفور, ومع ذلك ظلت أفكار الكتاب حية في عقل صاحبها والدائرة المحيطة به لكي ترى النور حين أصبح مهاتير رئيسا للوزراء ولتغير وجه ماليزيا تماما.
في عام 1972 انضم إلى المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة, وفي عام 1973 م عين كسيناتور, ثم بعد ذلك وزيرا للتعليم, وفي عام 1978 م عينه رئيس الوزراء حسن أون نائبا لرئيس الوزراء ثم وزيرا للصناعة والتجارة. وفي عام 1981م أصبح مهاتير محمد رئيسا لوزراء ماليزيا عندما استقال حسين أون من منصبه لأسباب صحية, وكان أول رئيس وزراء في البلاد ينتمي لأسرة فقيرة حيث كان رؤساء الوزراء الثلاثة السابقين أعضاء في الأسرة الملكية أو من عائلات النخبة. بدأ مهاتير محمد في ماليزيا في الوقت الذي بدأ فيه حسني مبارك حكم مصر, وانتهى الأول بتحقيق معجزة تنموية هائلة في ماليزيا بينما أحدث الآخر (مبارك) حالة تجريف وتخريب هائلة في المجتمع المصري انتهت بثورة 25 يناير التي اقتلعت مبارك ولكنها فشلت في اقتلاع نظامه.
بين عامي 1983 و1991م نجح مهاتير محمد في أن يمرر بعض التغييرات الدستورية الرئيسية التي تنزع حق الفيتو الملكي والحصانة السيادية ضد المقاضاة للأسرة المالكة, وقد ساهمت هذه التغييرات الدستورية في السيطرة على الفساد الذي كان متفشيا ومحتميا بالحصانة السيادية للاسرة المالكة والجيش. بعد هذا التعديل أصبحت موافقة البرلمان تعادل الموافقة الملكية بعد فترة 30 يوم, دون انتظار رأي الملك.
يلاحظ تدرج مهاتير محمد في العمل السياسي منذ شبابه المبكر, وقد منحه هذا نضجا سياسيا تنظيميا هائلا ساعده في إحداث التغيير الإيجابي في مشواره نحو نهضة بلاده, وربما يفسر هذا إصرار المستبدين والطغاة على إضعاف الأحزاب والمجموعات السياسية كي لا تفرز قادة متميزين ينافسونهم على حكم البلاد.
وخلال فترة حكمه طاف مهاتير محمد ببلاد العالم يدعوهم للاستثمار في بلاه ونقل خبراتهم الصناعية لماليزيا مقابل مكاسب هائلة يحققونها من خلال التسهيلات الاقتصادية والأيدي العاملة المدربة والرخيصة. وأثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنمور الآسيوية ومنهم ماليزيا قدم صندوق النقد الدولي نصائح بتعويم العملة المحلية والالتزام بقواعد العولمة الاقتصادية, ولكن مهاتير محمد لم يستجب لنصائح وتوصيات صندوق النقد الدولي واتبع خطة محلية أدت إلى تجاوز ماليزيا للأزمة الاقتصادية. ويعتبر مهاتير محمد أحد المناهضين للعولمة بمفهومها الأمريكي.
وفي عام 2003 م قرر مهاتير محمد ترك السلطة طواعية لإعطاء الفرصة للتغيير, وبكى في الخطاب الذي أعلن فيه تخليه عن منصب رئيس الوزراء, ولكنه أصر على مقاومة إغواء السلطة, ومقاومة نداءات محبيه بالاستمرار في منصبه بعد أن حقق معجزة لوطنه بكل المقاييس. وعلى الرغم من تحرره من المنصب الرسمي وبلوغه سن الـ 91 عاما إلا أنه ما زال يواظب على الذهاب إلى مكتبه في مبنى القادة السابقين في مدينة بوتراجايا (العاصمة الإدارية) للقيام بدوره الذي يضمن دوام الاستفادة من خبراته, كما يذهب أيضا إلى مكتبه في "مؤسسة البخاري" لتقديم مشورته, أما المكتب الثالث الذي يداوم الذهاب إليه فهو مكتبه في البرجين التوأمين الأعلى من نوعهما في العالم اللذين شيدا في عهده ليصبحا رمزا وفخرا لماليزيا.
وتقديرا لجهوده في خدمة بلاده تم منحه لقب "تون" وهو يعني "المبجل".
ويتبع>>>>>>>> : أصداء رحلة ماليزيا3
واقرأ أيضًا:
بوّاب العمارة / قاهر العفاريت