اعتزاز العربي بعزته وكرامته
الفصل الثامن
الزاهد سالم بن عبد الله في مواجهة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك:
في موقف لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، والذي طاف مع الخليفة هشام بن عبد الملك ودخل معه الكعبة، رغم منع الخليفة الناس من ذلك وأمرهم بإخلاء المطاف له. وحاول الخليفة أن يؤدب سالما فدعاه إلى مجلسه، وجاء فقعد على فراش الخليفة وخاطبه باسمه مجردا من الكنية واللقب وصافحه مصافحة عادية، فلامه الناس على ذلك، وقال له هشام لم تطوف معي وتقعد على فراشي بغير إذني ولا تحسن مخاطبتي فقال له: "إنك منعت الناس من بيت يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف أو صلى بهذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار"، وتحجرت بفراشك مكانا يقول الله فيه "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" (الحج:25)، ولو علمت أن الناس قد رضوا بخلافتك وأقروك أميرا للمؤمنين ما خاطبتك إلا بذلك، فلاطفه هشام، وأُعجِب بشجاعته وجسارته وبعث إليه بمال كثير فلم يقبله، بل قال ردوه على من أخذتموه منهـــم.
وبعد فلقد اهتم الإسلام باحترام الناس بعضهم بعضا، أيا كان حال الإنسان: قويا أم ضعيفا، غنيا أم فقيرا، عالما أو عاملا بسيطا، فيكفيه أنه إنسان؛ [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء:70)]، فلا يجوز لإنسان أن يستضعف نفسه، أو يُذل ذاته لآخر، وقبول الإنسان للظلم من الظالم أو الطاغية -مهما كان ظلمه وطغيانه، ومهما كان هذا المظلوم ضعيفاً- أمر مرفوض!؛ بل على ذلك المظلوم أن يستنكر هذا الظلم ويدفعه عن نفسه، مؤكدا لذاته، فإن لم يستطع الاستنكار ودفع الظلم عن نفسه، فعليه أن يرحل إلى بلد آخر يُعِز فيه نفسه، ويحترم فيه ذاته، فليس الإحساس بالضعف والاستضعاف من الأعذار المقبولة عند الله تعالى في تقبل الظلم وإطاعة الظالمين؛ ونجد في صريح القرآن ما ينهانا عن تقبل الظلم والانصياع للطغاة الظالمين؛ واستمع إن شئت لقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً] (النساء:97).
وقد عذر الله العجزة من الرجال الذين يفقدون القدرة على الانتقال ولا يجدون وسيلة للنجاة، وضم إليهم النساء والأطفال فقال: [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً] (سورة النسـاء، الآية 98-99)، وهذا التعبير يُشعِرك بكراهية الإسلام لأن يتحمل أبناؤه الهوان والذل، ويستنهض الهمم حتى تبذل الجهد كله في التخلص منهما.
ولقد أدرك الحكام الأقوياء لهذه الأمة أهمية العدل، ورد حقوق المظلومين لهم في استتباب الأمن ببلادهم، ودوام عروشهم، ولو كان صاحب الحق امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، ولو كان مغتصب الحق هو ابن الحاكم نفسه؛ ما رأيكم في أن نعيش هذا الموقف مع الخليفة العباسي القوي المأمون وابنه العباس؛ وامرأة مؤكدة لذاتها من عامة المسلمين، شجاعة في المطالبة بحقها!!، وممن؟! هيا بنا نرى هذا الحوار الأدبي الشيق:
المأمون ينصف امرأة على ولده: والمرأة تؤكد حقها بقوة
قال قحطبة بن حميد: إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه وقد هم بالقيام -امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة- فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرشد ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة عدي عليها فلم يترك لها سند
وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني وأفرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يُقض الجلوس لنا ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول ما تقدم إليه تلك المرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟!
فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين، وأومأت إلى العباس ابنه، فقال يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس.
فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك.
فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها وأخرسه.
ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يمكنها من ضيعتها، ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة.
ومن طريف ما ذُكِر عن رفض بعض الضعفاء لظلم الآخرين، بل ومواجهتهم، وأقول الضعفاء وليس المُستضعفون، فقد يكون الشخص ضعيفا جسديا وماديا واجتماعيا أمام سلطان وجبروت الظالم أو الطاغية، والناس جميعا من حوله يدركون تلك الحقيقة، ولكنه يشعر في داخله بقوة الحق، وعزة الله له؛ وذلك بطاعته لله، وإحساسه بأنه يناصر الحق، أو يدافع عن مظلوم لا حول له ولا قوة، فتراه يقف في مواجهة الظالم ولا سلاح معه، ولا نصير له إلا الله؛ وقد ينصره الله في الدنيا بتذليل الأسباب له، وقد يسحقه الظالم بجبروته؛ فيكون من الشهداء أو القديسين الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون، هذا الصنف الجميل من البشر يحفَر في ذاكرة الناس مواقف بطولته؛ فلا يُنسى على مدى الأجيال، ويظل الآباء يحكون قصص هؤلاء النخب من الأباة الأعزاء لأبنائهم، هؤلاء الصفوة من بني آدم هم جزء هام من تاريخ البشرية، بل قل إنهم هم الأعمدة الرئيسية التي قام بنيان البشرية عليها.
ما رأيكم في أن نسرد قصة واحد من هؤلاء البسطاء ولكن الأقوياء، وللأسف فإن كتب التاريخ لم تخلد لنا أسمه ولكنها خلدت موقفه، إنه خياط بسيط عاش في بغداد أثناء خلافة المعتضد العباسي:
الخيًاط رحمه الله تعالى والقائد التركي:
قال الخياط: في أحد الأيام صليت المغرب إماما في المسجد وخرجت بعد انتهاء الصلاة أريد الذهاب إلى بيتي وإذا بامرأة تخرج من الحمام القريب من المسجد وهي ترتدي ثيابا فاخرة، وكان ثمة قائد تركي يجلس على باب بيته القريب من المسجد أيضا هو وغلمانه، وما أن رأى المرأة حتى أشار إلى غلمانه فهجموا عليها وأخذوا يسحبونها إلى بيت قائدهم، وهي تصيح وتستغيث بالمسلمين أن ينقذوها من هذا البلاء، وهي تقول أنا امرأة شريفة طاهرة، وقد حلف زوجي إن تأخرت في العودة إلى البيت أكون طالقا.
وعندما سمعت ذلك ثارت الحمية في رأسي وهجمت على الغلمان الأتراك أريد استخلاص المرأة منهم وصاروا هم يسحبونها إلى البيت وأسحبها أنا إلى الخارج ولكنهم تغلبوا علي وأدخلوا المرأة إلى البيت ورموني خارجه وأغلقوا الباب. وبعد أن استرددت روعي كليا قلت لنفسي كيف يحدث هذا؟ امرأة شريفة تنتهك حرمتها غصبا عنها وتُطَلق من زوجها، هذا لا يمكن أن يكون، فنهضت وصرت أصيح بالمسلمين الخارجين من المسجد والمارين في الطريق وأستحثهم على استخلاص هذه المرأة المظلومة من براثن هؤلاء الظالمين فاستجابوا لي فذهبنا جميعا وطرقنا باب القائد التركي ففتح غلمانه الباب، وعندما رأوني والناس من حولي صاحوا بسيدهم وحملوا علينا بالعصي، وحمل قائدهم عليً من دون الناس وأسال دمي فارتميت على الأرض مغمى عليً وهرب الناس من حولي ودخل القائد وغلمانه بيتهم وأغلقوا الباب عليهم.
وبعد أن هدأت نفسي قليلا وعادت إليً بعض قوتي تحاملت على نفسي ونهضت وذهبت إلى بيتي القريب من المسجد فغسل أهلي الدماء من رأسي و وجهي وثيابي وضمدوا جروحي، واضجعت لأنام؛ ولكنني لم أستطع فصورة المرأة المظلومة وهي تستغيث بالمسلمين لم تنفك عن خاطري ولم تتركني أهدأ أبداً، وفجأة خطرت لي فكرة نفذتها على الفور، وهي أن أؤذن أذان الفجر في هذا الوقت من الليل، لعل القائد التركي يسمع الأذان فيظن أن الفجر قد بزغ فيخلي سبيل المرأة لتذهب إلى بيتها قبل أن يقع عليها الطلاق فنهضت وأخذت مفاتيح المسجد وأسرعت إليه ففتحته وصعدت إلى المئذنة وأذنت آذان الفجر وأنا أنظر إلى باب القائد التركي لعله يفتح وتخرج منه المرأة المخطوفة، ولكن الباب لم يفتح، فهممت أن أؤذن آذان الإقامة للصلاة ولكنني فوجئت بباب قصر الخليفة العباسي المعتضد يفتح ويخرج منه حرس كثيرون بيدهم السلاح حتى امتلأت الساحة بهم، وصاح كبيرهم من الذي يؤذن في هذا الوقت من الليل؟
فخفت وسكت ولم أجب، فعاد كبير الحرس يصيح من الذي يؤذن في هذا الوقت من الليل؟ فتشجعت وقلت على خوف ووجل واستحياء أنا يا سيدي فقال انزل وأجب أمير المؤمنين فإنه قد سمع آذانك الآن فأمرنا بإحضارك بين يديه، فازداد خوفي واضطرابي لأن المعروف عن المعتضد أن سيفه قبل كلمته ولكنني نزلت مضطرا وأنا ارتجف من الخوف فأخذوني من يدي وأدخلوني قصر الخليفة وأحضروني بين يديه. وكان الخليفة جالسا في صدر المجلس يسمر هو و وزراؤه وندماؤه وعندما رآني صاح بي: لماذا أذنت في هذا الوقت من الليل؟ فسكت ولم أجب وقد ازداد ارتجافي واضطرابي، ولما رأى حالتي قال لي هون عليك يا رجل اجلس واسترح وهدئ من روعك فأنا لا أريد بك شرا وإنما أريد معرفة سبب آذانك في هذا الوقت من الليل.
فجلست وقلت له هل تعطيني الأمان لأتكلم؟ فقال: تكلم ولك الأمان فقصصت عليه قصة المرأة والقائد التركي من أولها لآخرها وأريته جروح رأسي وأثر الدماء على شعري وثيابي، وعندما سمع ذلك غضب غضبا شديدا وقال أيحدث هذا في ملكي وأنا لا أدري، إن كان حقا ما تقول سأريك ما أفعل، وإن لم يكن حقا فسأقطع رأسك. ثم صاح على صاحب الشرطة فحضر فقال له خذ هذا الرجل وخذ معك ثلة من الحرس واذهب إلى البيت الذي يدلك عليه وادخلوه مهما كان مركز صاحبه وفتشوه فإن وجدتم فيه امرأة مخطوفة فائتوا بها وبصاحب البيت. فذهب صاحب الشرطة ومعه ثلة من الحرس وذهبت معهم وأنا أخشى أن يكون القائد التركي قد خلًى سبيل المرأة فيظنني الخليفة كاذبا، ودللتهم على البيت فطرقوا الباب وعندما فتح دخلوا بدون استئذان وأخذوا يفتشون البيت وأنا معهم إلى أن عثرنا على المرأة المخطوفة في إحدى الغرف، وعندما رأتني عرفتني فأخذت تصيح وتستغيث بي، فهدأها رئيس الحرس وأخذها واقتاد معها صاحب البيت القائد التركي، وعدنا جميعا إلى مجلس الخليفة.
وعندما رأى الخليفة المرأة سألها عن شأنها فأخبرته بقصتها كما قصصتها أنا عليه وتأكد بذلك من صدقي، فأمر بقتل القائد التركي وقال لي: قد وليتك الحسبة في بغداد، كلما رأيت منكرا غيره وإن لم تستطع فأذن في غير وقت الأذان!، وهكذا منذ ذلك الوقت وأنا أنصر المظلومين وآخذ لهم حقوقهم.
ويتبع >>>>>>>>>>> من كان يريد العزة فلله العزة جميعا