قوة صاحب الحق في تأكيد ذاته
الفصل الثامن
إن اعتزاز المسلم بنفسه نابع من تعاليم دينه وربه، وهو كبرياء وإيمان، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان أو يتضعضع في مكان، أو يكون ذنبا لإنسان. هي كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة، وفيها من التعالي بقدر ما فيها من التطامن، فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطلب العظمة من أصدق سبلها. وكنت قد كتبت الموقف السابق من مواقف تأكيد الذات، وأنا أقول في نفسي: "الحمد لله لم نصل إلى مرحلة اختطاف امرأة متزوجة أو فتاة تسير بالشارع لإعجاب شخص ذي سطوة بها ورغبته الحيوانية فيها!؛ وذلك كما حدث من قائد تركي في بغداد قبل سقوطها وحرقها وقتل مليونين من أهلها على يد هولاكو قائد المغول وجنوده".
ولكن بعد ما حدث بالقاهرة في عام 2006 وفي أول أيام عيد الفطر المبارك من محاولة بعض -الشباب الضائعين المدمنين على الأرجح- الاعتداء على بعض الفتيات اللاتي يسرن بالطريق العام وفي وضح النهار، وأمام سينما مترو -وفي عز الظهر كما يُقال– فزعت من حالنا، وما آلت إليه الأوضاع الأمنية للحرمات العامة في بلادنا، وأخذت في مراجعة نفسي وسؤالها: هل التاريخ يعيد نفسه بالفعل؟، وهل وصل تدهور الأخلاق لدينا إلى درجة الاعتداء على الفتيات الآمنات في الشوارع المزدحمة وبلا سابق إنذار؟ والمفروض أن هؤلاء الشباب هم ذخيرة الأمة ومخزونها الاستراتيجي!، فمن هو المسئول عن ذلك؟ ثم الأهم هو كيف نتدارك تلك المصيبة -والتي تدق لنا العديد من نواقيس الخطر- وبسرعة؟!؛ لأن العدو بالمرصاد، وهو منا قريب بعد أن أسقط بغداد للمرة الثانية ودمرها واستباح دماء أهلها وتجاوز القتلى من أهلها المليون نسمة!
فهل من معتبر؟! وهل من متعظ؟! وهل من مدكر؟! وهل من مستعد لما ستأتي به الأيام القادمة، وخصوصاً بعدما اتضح لنا وبوضوح: أننا نعيش في غابة يفترس فيها القوي الضعيف افتراساً، وأن الأقوى في العالم من بني البشر هو الذي يفرض قانونه على الآخرين مهما كان هذا القانون ظالماً وباغياً؟!، ودون أن يطبق هذا الجانب القوى على نفسه أو على أبنائه ذلك القانون أبداً.
فانتبهوا يا أمة العزة والكرامة، تصالحوا مع الله تستقم لكم أنفسكم وتأتيكم الدنيا طائعة، اجتنبوا حرماته، وأقبلوا على طاعاته، وخذوا بيد من حديد على أيدي المفسدين فيكم، ودعوا الخلافات الطائفية والقبلية والشخصية جانباً، واستعدوا جميعا يداً واحدة -معتصمين بحبل الله جميعاً- لأيام أصعب قادمة في مواجهة المد المغولي الصهيوني الجديد، والقادم هذه المرة من جهة الغرب!.
يقول الله تعالى: [مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ] (فاطر:10).
فالعزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في أبناء المجتمع، وكان من النماذج المضيئة في عهد التابعين سفيان الثوري؛ الذي حرص على تجنب ولاية القضاء لخلفاء وأمراء بني أمية وبني العباس؛ وإليكم موقفه الجليل مع أبي الخلفاء العباسيين، والمؤسس الفعلي للدولة العباسية، والذي كان يخشاه القريب منه أكثر من البعيد عنه:
سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
لو أن رجلا من أهل الآخرة أنزل إلى الدنيا ليمضي فيها مدة محددة على كره منه ويعود بعدها إلى الآخرة لكان هو سفيان الثوري. لقد كان كارها للدنيا وما فيها، أمضى أكثر أيامه مختفيا من الخلفاء والولاة والأمراء، كان هاربا من الخلفاء والأمراء، كي لا يتولى القضاء لهم، بل هاربا من الدنيا وما فيها، ينتظر انتقاله إلى الآخرة بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر.
من مواقفه وأقواله:
بلغ أبو جعفر المنصور أن سفيان الثوري مختف عند الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي، فأمسك بالحسن فضربه وحلق رأسه ولحيته. عند ذلك عزم سفيان أن يأتيه فاغتسل ولبس ثوبين نظيفين وتطيب وذهب إليه. يقول سفيان: أدخلني الحجاب عليه فضربت البساط برجلي حتى غبًر على ثم جلست قبل أن يأذن لي فقال حاجبه كيف تجلس قبل أن يأذن أمير المؤمنين، فقلت له: "أسكت يا هامان".
فقال أبو جعفر المنصور لمن حوله أشيروا عليَّ فيه برأيكم!.
فقالوا: أقتله، فترك مثل هذا جرأة على الخلافة.
فتبسمت
فقال أبو جعفر: ما الذي أضحكك يا أبا عبد الله؟!
فقلت: يا أبا جعفر كان وزراء فرعون أنصح لفرعون من وزرائك لك!، قال لهم في أمر موسى عليه الصلاة والسلام [يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ] (الأعراف:111،110). وهؤلاء قالوا لك أقتله.
قال: صدقت يا أبا عبد الله، هل من حاجة أقضيها لك.
قلت: ما لي إليك حاجة، ما تريد مني؟ أتريد أن أجيبك إلى ما تريد؟ (يقصد توليه القضاء) والله لا يكون ذلك أبدا، فرقت بيني وبين إخواني، ومنعتني مسجدي والله حسيبك ومسائلك عما تصنع.
فقال أبو جعفر: انطلق يا أبا عبد الله في حفظ الله.
ومن أقوال سفيان الثوري رضي عنه:
"نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر والقائد الجاهل".
"يهتف العلم بالعمل فإن أجابه بقي وإلا ارتحل".
وقال له رجل أوصني فقال "إياك والأهواء، وإياك والسلطان".
ومن المفترض أن يتذكر المسلمون عزتهم وكرامتهم يومياً ولعدة مرات؛ فعندما يصيح المؤذن خمس مرات كل يوم مناديا بتكبير الله وحده في بداية الآذان ونهايته؟ ولما يتكرر هذا التكبير فيكتنف حركات الصلاة كلها من قيام وقعود؟ ذلك كله لكيما يوقن المسلم يقينا لا يهتز ولا يتزعزع أن كل متكبر بعد الله هو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله هو حقير، وكأنما وُكِل إلى هذا النداء أن يرد الناس إلى ربهم متذكرين عزتهم و تأكيدهم لذواتهم كلما أطاشتهم الدنيا وضللتهم و ضعضعت من شئونهم.
وتوكيدا لهذه المعاني اختار الله عز وجل اسمي: العظيم والأعلى من أسمائه الحسنى ليكررهما المسلم في أثناء ركوعه وسجوده، فتتشرب روحه بإفراد رب العالمين -وليس أحد دونه- بالعظمة والعلو.
والعزة حق يقابله واجب وليس هناك مسوغ لأمرئ أن يطالب بماله من حق حتى يؤدي ما عليه من واجب، فإذا كلفت بعمل ما فأديته على أصح وجوهه فلا سبيل لأحد عليك، ولا يستطيع من هو فوقك ولا من هو دونك مرتبة أن يعرض لك بلفظ محرج، وتستطيع أن تحتفظ بعزة نفسك أمام رؤسائك حين تسد الثغرات التي ينفذ منها إليك اللوم والتقريع. واعلم أن ألد أعدائك حينئذ سيتهيبك.
قال تعالى (للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(يونس:26، 27).
وارتكاب الآثام سبيل السقوط والإهانة، ومزلقة إلى خزي الفرد والجماعة، وقد بين الله أن الهزيمة في غزوة "أحد" سببها ما ارتكبه البعض من مخالفات. قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ](آل عمران:155).
فالإسلام عندما أوصى المسلم بالعزة هداه الله إلى أسبابها ويسر له وسائلها وأفهمه أن الكرامة في التقوى وأن السمو في العبادة، وأن العزة في طاعة الله. والمؤمن الذي يعلم ذلك ويعمل به يجب أن يأخذ نصيبه كاملا غير منقوص في الحياة الرفيعة العزيزة. فإذا اعتدى عليه أحد أو طمع فيه باغ كان انتصابه للدفاع عن نفسه جهادا في سبيل الله، وليس ذيادا عن الحق الشخصي فقط، بل إقراراً للحقوق العامة والمثل العالية، ومن ثمً فإن موت المسلم دفاعا عن حقه من مال أو أرض أو عرض هو شهادة في سبيل الله.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟
قال: "لا تعطه مالك"
قال: أرأيت إن قاتلني؟
قال: "قاتله"
قال: أرأيت إن قتلني؟
قال: "فأنت شهيد"
قال: أرأيت إن قتلته؟
قال: "هو في النار" - أخرجه مسلم
نعم.. فمن عزة المؤمن ألا يكون مستباحا لكل طامع ولا غرضاً لكل مهاجم، بل عليه أن يستميت دون نفسه وعرضه وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء، فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع.
وإنما شرع الله الثأر من الظالم إعزازاً لجانب المهضوم المظلوم، وإيهانا لجانب العادي الظالم. فعلق المسلم بحقوقه وملأ بها يديه وأغراه أن يتشبث بها، فلا ينزل عنها إلا عفوا كريما، أو بسماحة تزيده عزا على عز.
وقد لقنه أولا دروس الإيمان وشرائع الكمال ووقفه على منهج الفضل والرفعة بقوله: [فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ](الشورى: 36 - 38 ) .
بعد هذه التعاليم التي توفر لأصحابها العزة الكاملة، فرادى وجماعات قال تعالى: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ](الشورى:39 - 40). فمن خٌلق المسلم أن يغفر إذا استغضبه من هو دونه، ومن خلقه كذلك أن يؤدب المجترئين عليه، حتى يفلً حدًهم ويكسر شوكتهم. وهو في هذه الحالة مكلف أن يُبرِز قوته حتى يُرهِب المجرمين، وله وهو في هذا المكان العالي أن يعفو فإنً عفو المقتدر –بعد أن تنتفي علائم الضعف- لون آخر من تأديب المجرمين وكرامة المؤمنين. فالخلق الذي تضمنته الآيات الأخيرة، يغاير الخلق الذي تضمنته الآيات الأولى.
الأولى تعني التجاوز عن هفوات العاثرين: [وإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون] (الشورى، الآية 37). أما الأخرى فتقدم الجاني إلى القضاء وتوقع عليه العقاب، وتمكن سيف القصاص من عنقه، إذا انكسرت سطوته واختفت جرأته، جاء الفضل بعد استطالة العدل فكان ذلك زيادة في قمع المستخفين وزيادة في عزة المسلم.
ولما كان في النفس الإنسانية شيء من الضعف أو القلق، ربما حملها على الخنوع لمن يملك الفصل في أمورها وقضاء مطالبها، وربما انزلق بها إلى مواقف تجافي الكرامة، لذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستكين في هذه الأمور وأن تبقى جباهنا عالية ونحن نسعى إلى ما نبغي، فقال: "اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير".
وبين لنا أن البشر –لو اجتمعوا بأسرهم– أذل من أن يمنعوا شيئا أعطاه الله، وأقل من أن يعطوا شيئا منعه الله، ومن ثم فعلى المسلم أن يرد مصائر الأمور إلى مدبرها الأعظم، وأن يجعل ثقته في الله عز وجل وأن يجعل عليه سبحانه المعول في كل أموره.
وليملك نفسه فلا يعطي فرصة لأحمق كيما يستعلي ويستكبر، فإن قرارا ما لن يتم إلا إذا أمضاه الله عز وجل. يقول تعالى: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (فاطر:2).
ومظهر السلطة الذي يمنحه الله لطائفة من العباد لا يغير قيد شعرة من إرادة القاهر فوق العباد، إننا في أحيان كثيرة نحس أننا مغلوبون على أمرنا، لكن هذا الإحساس منتف في حق الله الذي لا يمكن أن يعجزه شيء. [..... وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:21).
فالأدنى إلى الحق، والأقرب إلى النفع، والأرشد في علاج المشاكل أن يظل المسلم منتصب القامة مرتفع الهامة، لا تدنيه حاجة، ولا تطويه شدة، يجأر إلى مولاه بالدعاء ويكشف انكساره لربه وحده، فلا يبدي صفحته لمخلوق، فقها لقول الله تعالى: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (يونس:107).
ولقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الاستغناء والاكتفاء، وفطم النفوس عن أن تسأل الناس شيئا حتى التافه الذي لا يضير. فكان أحدهم ينزل عن ناقته ليلتقط سوطه ويرفض أن يكلف أحدا مناولته إياه. ومن المعلوم أن الناس يذلون أنفسهم ويقبلون الدنية في دينهم ودنياهم لواحد من أمرين: إما أن يصابوا في أرزاقهم أو في آجالهم، والغريب أن الله قطع سلطان البشر على الآجال والأرزاق جميعا، فليس لأحد إليهما من سبيل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله" – أخرجه الطبراني. وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لا ليقعد الناس عن التكسب الواجب: فهذا ظن الجهلة. لكنه يقول ذلك ليجمل الناس في الطلب ويخففوا من الإلحاح الشائن والتملق المعيب، وذلك سر القسم: [وفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] (الذاريات:22 ، 23).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه، فلا يستبطئن أحد منكم رزقـه. فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه. فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته" - أخرجه الحاكم.
والناس في الحقيقة يستذلهم وهم، هذا الوهم قد نشأ من أنفس مريضة بالحرص على الحياة والخوف على الرزق، والناس من خوف الذل في ذل، ومن خوف الفقر في فقر كما قال سيدنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والإسلام بني حقيقة التوحيد على الصلة بالله تبارك وتعالى مع اليأس من الناس فيما لا يملكون فيه على الله شيئا، ولا يقدمون نفعا ولا ضرا. يقول تعالى: [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ] (الملك:20).
ويدندن ابن قيم الجوزرة حول نفس معاني التوحيد السابقة قائلاً:
يا من ألوذ به فيما أو أمــــله! ومن أعوذ به مما أُحـــاذرهّ!
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره!
وتلك المفاهيم هي من معاني التوحيد الكامل المصحوب بالاعتزاز: بالذل التام لله عز وجل، والذي يستتبعه شعور بالعزة والكرامة والثقة وتأكيد الذات في التعامل مع البشر، وذلكم ما يجب أن يستشفى به المرضى الذين يريقون مياه وجوههم في التسكع على الأبواب والتمسح بالثياب والزلفى على الأعتاب، والمصحوبين جميعاً بأعراض ضياع العزة والكرامة وتأكيد الذات.
وبهذا الاعتقاد الراسخ -في تمام الذل لله والخضوع له وطاعته مع اليقين بأن الأرزاق والآجال بيده وحده سبحانه وتعالى- رفع الإسلام قدر المستمسك به، وجعله ينقل أقدامه على الأرض مكينا كريمـا. ثم أوضح له أن هؤلاء الذين نتردد عليهم في حاجاتنا إنما هم ممر للعطاء أو مظهر للمنع.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترضين أحدا بسخط الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله. ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله. فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا ترده عنك كراهية كاره. وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في السخط" – أخرجه الطبراني. وهذا الحديث لا يعني جحود الصنيع ولا ازدراء الفضل لمن أسدوا الفضل فإن الحديث يقول: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" – أخرجه الترمذي.
ولكن معناه: ألا يُستعبد المرء بمنًة وصلة حتى تداس كرامته فإن المنة لله أسبق ولا يجوز للمعطي أن يقصد بهبته شراء الأنفس والتصرف فيها كما يحب. فإن هذا يحبط أجره. وكان ذلك القصد –ولا يزال– شأن الذين يؤتون لغير الله. ولذلك تأفف الأحرار من عطاياهم.
أما الذين يعطون لله، ويؤدون حقوق العباد ابتغاء وجهه، فقد قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم في بيان مكافآتهم: "من أعطي عطاء فليجز به إن وجد، فإن لم يجد فليثن به، فإن من أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره" – أخرجه أبو داود.
أما تهيب الموت وتحمل العار طلبا للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق، فإن الفرار لا يطيل أجلا والإقدام لا ينقص عمرا، كيف؟ [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] (الأعراف: 34). إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزا ما دمت، فلن يفلت من محتوم القضاء إنسان.
ويتبع >>>>>>>>>>> امرأة تؤكد ذاتها بقوة