الشيخ الأذرمي رحمه الله تعالى
الفصل الثامن
ولقد حرص الإسلام أشد الحرص على أن يعتز العلماء المسلمون بكرامتهم، فلا يتهافتوا على أبواب الأمراء والملوك والرؤساء والسلاطين وأهل السلطة والنفوذ إلا لنصحهم أو لتحقيق مطلب من مطالب الرعية، كما كان يفعل عطاء وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والإمام أحمد وغيرهم من العلماء العاملين بعلمهم، أما إذا كان دخول العلماء على أولي الأمر للسمر معهم ومحبة مجالسة أهل السلطة والسلطان فالحذر الحذر والحرص الحرص، وسيلاحظ من يقرأ الأحاديث النبوية الشريفة التالية وأقوال الصحابة والتابعين أن الكلام موجه للمسلمين كافة وإن اختُصت طائفة أهل العلم الشرعي (العلماء) بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم والعلماء من الصحابة والتابعين في هذه المنطقة الحساسة والدقيقة، فلا عذر لعالم في أن ينافق ولي الأمر، ويتحدث في الدين ويفتي للناس على هوى الحاكم، مهما كان هذا الحاكم أو ولي الأمر غشوما جهولا أو ظلوما، ولنا في أسلافنا من العلماء الأجلاء القدوة والمثل في هذا المجال، بل يُستحب من الحاكم أن يزور علماء الأمة في مساجدهم أو في بيوتهم احتراما وتقديرا وإعلاء لِشأنهم وقدرهم، فديننا يحض علماء الأمة على توكيد ذواتهم، والتزامهم بالعزة والإباء والشمم المصحوبين بخفض الجناح والتواضع للمؤمنين.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ولم يدخلوا في الدنيا، فإذا خالطوا السلطان ودخلوا في الدنيا فقد خانوا الرسل، فاعتزلوهم واحذروهم". عن عبيد بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا زاد من الله بعدا، ولا كثرت أتباعه إلا كثرت شياطينه، ولا كثر ماله إلا اشتد حسابه".
قال حذيفة رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما مواقف الفتن؟ قال: "أبواب الأمراء". قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على السلطان فنتكلم بالكلام، فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، قال: "كنا نعدها من النفاق". عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليدخل على ذي سلطان ومعه دينه فيخرج وما معه دينه"، قيل وكيف ذلك؟ قال: "يرضيه بما يُسخِط الله".
قال بعض المتقدمين: "إذا رأيت القارئ يختلف إلى الأغنياء فاعلم أنه مراء ، وإذا رأيت عالما يختلف إلى الأمراء فاعـــلم أنه أحمق". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ليس شيء أضر بهذه الأمة من ثلاث: حب الدينار والدرهم، وحب الرياسة، وإتيان باب السلطان، وقد جعل الله منهن مخرجا". عن مكحول رضي الله عنه قال: "من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان متملقا إليه ومطيعا له بين يديه خاض في نار جهنم بعدد خطاه". عن ميمون بن مهران رضي الله عنه قال:"في صحبة السلطان خطر، إن أطعته خاطرت بدينك، وإن عصيته خاطرت بنفسك، والسلامة أن لا يعرفك".
عن الفضيل بن عياض (عابد الحرمين) رحمه الله قال: "لو أن رجلا لا يخالط هؤلاء –يعني السلاطين– ولا يزيد على الفرائض فهو أفضل من رجل يخالط السلطان ويصوم النهار ويقوم بالليل ويحج ويجاهد، وما أقبح عالما يُسأل عنه أين هو؟ فيقولوا عند الأمير".
روى الحسن رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال يد الله على هذه الأمة ما لم يعظم أبرارهم فجارهم، وما لم يرفق خيارهم بشرارهم، وما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، فإن فعلوا ذلك رفع الله عنهم البركة، وسلط عليهم جبابرتهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم الفاقة".
عن عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما أنه قال: "يا معشر العلماء زغتم عن الطريق وأحببتم الدنيا، فكما أن الملوك تركوا الحكمة عندكم فاتركوا ملكهم عليهم". وعن شقيق بن سلمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم الثقفي على صدقات هوازن فتخلف فلقيه عمر رضي الله عنه فقال:ما خلفك، أما ترى لنا عليك سمعا وطاعة؟ فقال: بلى ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ولي أحداً من الناس أُتي به يوم القيامة حتى يوقف له على جسر جهنم، فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فيهوي فيها سبعين خريفا"، فخرج عمر رضي الله عنه حزينا كئيبا، فلقيه أبو ذر رضي الله عنه فقال له: مالي أراك حزينا كئيبا؟ قال عمر: وما يمنعني وقد سمعت بشر بن عاصم يقول كذا وكذا، قال أبو ذر، أما سمعت ذلك؟ قال عمر: لا، فقال أبو ذر أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وزاد عليها: "فيهوي بها سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة".
وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُجاء بقاضي العدل يوم القيامة من شدة الحساب، يود أن لم يكن قضى بين اثنين قط". عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جُعل على القضاء فكأنما ذُبِح بغير سكين".
ويروى أن الخليفة أباجعفر المنصور (وقد عُرِف عنه الغدر والبطش) طلب من الإمام أبي حنيفة النعمان تولي القضاء له؛ فرفض الإمام قائلا: "أنا لا أصلح لهذا الأمر"، فقال له أبو جعفر: "سبحان الله أعنا على أمرنا" فقال: "يا أمير المؤمنين إن كنت صادقا فقد أخبرتك، وإن كنت كاذبا فلا يحل لك أن توليني هذا الأمر".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحبني رجلان فلما دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: يا رسول الله استعملنا على بعض أعمالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعمل على عملنا من أراده وطلبه".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن عجرة:
"يا كعب أعيذك بالله من إمارة السفهاء –ثلاث مرات– أمراء يكونون من بعدي فمن صدقهم على كذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك مني براء وأنا منهم برئ، يا كعب كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به، يا كعب الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، يا كعب الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها".
وذُكر أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان على سطح له وقد طعن في العمر، وله من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، فرأى الناس يتحملون وينتقلون، فقال ما بالهم؟ قيل: يفرون من الطاعون. فقال: يا طاعون خذني، يا طاعون خذني، فقيل له لم تدعو بالموت وأنت صاحب رسول الله، وقد سمعته ينهى عن طلب الموت، فقال أسأل الله الموت لخصال ست رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهم على أمته، قلنا: ما هن؟ قال: "إمارة الصبيان، وكثرة الشرط، والرشوة في الحكم، وقطيعة الرحم، والاستخفاف بالذمة، ونشء يتخذون هذا القرآن مزمارا مهجرا يقدمون الرجل وما هو بأفضلهم ولا بأفقههم إلا ليغنيهم بالقرآن غناء".
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه مر على باب الوزير ابن هبيرة –وهو من أفاضل الوزراء علماً وفضلاً- فرأى قوما من القراء قال: "ما ظنكم يا هؤلاء القراء؟! ليس هذا من مجالس الأتقياء".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم وجيران الأغنياء، وعلماء الأمراء، وقراء الأسواق".
وعن الضحاك بن مزاحم قال: "إني لأتقلب الليلة كلها على فراشي ألتمس كلمة أرضي بها السلطان ولا أُسخط بها خالقي فلا أقدر عليها". وذُكر أن الأمير عيسى بن موسى (عم أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور، وكان من علماء و حكماء بني العباس) لقي ابن شُبرمة فقال عيسى له: مالك لا تأتينا؟ قال: "وما أصنع بإتيانك، إن قربتني فتنتني، وإن أبعدتني آذيتني، وليس عندي ما أخافك، وليس عندي ما أرجوك".
وقال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: "اجتنبوا أبواب الملوك، فإنكم لا تصيبون من دنياهم شيئا إلا أصابوا من آخرتكم ما هو أفضل منه". وقال بعض المتقدمين: دخولك على الملوك يدعوك إلى ثلاث: "إيثارك رضاهم، وتعظيمك دنياهم، وتزكيتك عملهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
لكن هل كل الخلفاء والحكام كانوا ممن يؤذون العلماء عند مخالطتهم إياهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الأمانة تقتضي أن نذكر بعض المواقف للخلفاء والسلاطين، والتي نرى فيها الحكام بسلطانهم يخفضون جناحهم للعلماء ويتبسطون معهم بل ويخدمونهم!.
هارون الرشيد وعالم ضرير في الحديث:
كان الرشيد يدعو العلماء إلى طعامه، وفي إحدى المرات كان المدعو إلى مائدته أبا معاوية المحدث الضرير، وبعد أن انتهى أبو معاوية من طعامه، قام الرشيد يصب الماء على يدي المحدث الجليل، والعالم الجليل ثابت الجنان، فسأله الرشيد وهو مبتهج؛ أتدري من يصب على يديك الماء؟
فأجاب العالم: لا
قال الخليفة: أنا
لم يهتز المحدث، ولم يرتجف، وكأنه يرى أن الرشيد يفعل شيئا عاديا واجبا عليه، ليس لأن العالم ضيف على الرشيد!، لكن أنا أريدك أن ترى كم الثقة وتأكيد الذات في إجابة هذا العالم الضرير؛ والذي أجاب على الخليفة قائلا: "إنما أكرمت العلم يا أمير المؤمنين"، واستمر العالم في غسل يديه، وهارون الرشيد مبتهجاً ومستمراً في غسل يدي عالم الحديث الأبي الجليل!!.
لكن من هو هارون الرشيد؟، هو واحد من أعظم ملوك التاريخ، وسيد على أكثر من نصف العالم في عصره، وحاكم لأكثر من عشرين دولة من دول اليوم!!. لقد بلغ من حب الرشيد للعلم أن رحل هو وولداه الأمين والمأمون لطلب العلم وقراءة الموطأ على الإمام مالك من بغداد إلى المدينة، وهذا لم يُسمع عن ملك في الشرق ولا في الغرب إلا عن صلاح الدين الأيوبي لما رحل إلى الإسكندرية لسماع الحديث. قال: السيوطي ولا أعرف لهما ثالثا!!.
ويُحكى أن أحد العلماء الأفاضل دخل على هارون الرشيد واعظاً فقال: يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن كان قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لا يبقى لغيرك. يا أمير المؤمنين تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك: "مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" قال: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك فكيف ما عملته الأيدي وأحصته الألسن يا أمير المؤمنين. فبكى الخليفة حتى ابتلت لحيته.
رحم الله الأمراء والملوك والسلاطين والرؤساء الذين يتواضعون لعلماء الأمة، ويعرفون ويعترفون لعلماء الأمة الصالحين بالفضل والمكانة، فيتقبلون النصيحة من علماء الأمة بصدورٍ رحبة؛ وإن لم يكن في كلام هؤلاء العلماء الصالحين أي تملق للخليفة أو الحاكم، ولا حتى شيء من المجاملة لهؤلاء الحكام، وعندما تجد كلمات العلماء الأباة المخلصين الآذان الصاغية من حكام الأمة فعندئذ تتحقق الانتصارات والفتوح على أيدي هؤلاء الحكام والأمراء.
أما إذا كانت العلاقة بين الحكام والعلماء هي عكس ما ذكرت –وهذا على مدار التاريخ الإسلامي، وبلا أدنى مبالغة– فالنتيجة هي الهزائم المتكررة، وطمع الأعداء في أراضي الأمة، وتوالي النكبات والنكسات على مجتمعات الأمة.
ويتبع >>>>>>>>>>> القوة في الحق